الاثنين، 25 أبريل 2016

رسائل الروح


في حياة كل إنسانٍ منَّا موقفٌ أو حدثٌ لا تعود الحياة بعده كما كانت قبله .. نقطةُ تَحَوُّلٍ تُغَيِّر مسار حياتك وتقلب كل موازينها رأسًا على عقبٍ .. جرسُ إنذارٍ يَقْرَعُ في رأسك كي تُعيد ترتيب أفكارك وطريقة تعاملك مع حياتك القصيرة .. صفعةٌ تُزلزِل كيانك كله لتمنحك الفرصة كي تصحِّح أخطاء الماضي .. رسالةٌ ربانيّةٌ تجعلك تُراجع حساباتك مع نفسك ومع مَنْ حولك ومع ربك مِن جديد.

قد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن فَقْدٍ لعزيزٍ اختطفه طائرُ الموت فجأةً من بين أحبائه وأصحابه وأهله، في وقتٍ لم يَدُرْ بِخُلْدِ كائنٍ كان أن يكون الموت قريبًا بهذه الدرجة .. فقد يَغترُّ الإنسان بصحته وصغر سنِّهِ ويظن بأن الموت بعيدٌ عنه للدرجة التي تجعله يستبعد حدوثه، فيأتي فَقْدُ عزيزٍ لديه ليكون كاللطمة المزلزلة لكيانه كي يتذكر أنه مهما أخذته الدنيا بزينتها ومهما خدعته بِبُهرجها ومهما أغوته بالمال والولد والصحة ومهما فتنته بسحرها وعطائها، فإن الزينةَ والبُهرجَ والمالَ والولدَ والصحةَ زائلون.

وقد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن موقفٍ عابرٍ أو لحظةٍ ما يتوقف أمامها الإنسان فجأةً بلا مقدماتٍ، فتكون سببًا في تغيير مجرى حياته إلى الأفضل.

وقد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن آيةٍ من كتاب الله أو فَقْرةٍ في كتابٍ تَقَعُ عيناك عليها فتتغلغل بين تلافيف مخك ومنه تنتقل إلى قلبك ثم تمس روحك فتستحوذ عليها لتملك كل كيانك في لحظةٍ نورانيةٍ ربانيّةٍ نادرةٍ، إذا تتبعتها ستأخذ بيدك إلى آفاقٍ رحبةٍ تنتشلك من واقعك المليء بالخطايا، لتسمو بك وتُطَهِّرُك من الآثام التي تُلَوِّث عقلك وقلبك وروحك.


الرسالة الأولى: وسيم - الثلاثاء 15 ديسمبر 2015


وَقَفْتُ أمام قبره لحظة دفنه وأنا أُوَدِّعَهُ إلى مثواهِ الأخير .. مذهولاً مصدومًا غير مُصدقٍ أنه لم يَعُدْ بيننا وأنني لن أراه في حياتي مرةً أخرى .. لن أسمع صوت ضحكاته المرحة .. لن أرى ابتسامته التي لم تفارق وجهه في حياته .. لن نجلس سويًا على المقهى .. تذكرت مواقفي معه في الكلية خلال سنوات الدراسة الأربعة في قسم عمارة .. تذكرت عملنا معًا في نفس الشركة بعد التخرج .. تذكرت مقابلاتنا على المقهى ونحن نلعب الطاولة، فأهزمه في الطاولة 31 ويهزمني في المحبوسة، ثم نظل نتسامر ونتذكر أيام الدراسة ونضحك وقد انفصلنا عن هموم الحياة ونسينا مشاكل العمل التي لا تنتهي .. تذكرت إفطارنا معًا كل رمضان .. تذكرت زياراتنا المتكررة لبيت والديه قبل زواجه .. تذكرت والده وأخيه وأختيه وجدته الطيبة التي لم أرَ وسيم حزينًا كحزنه عليها يوم وفاتها .. تذكرت مكالماتنا التي كانت لا تقل عن ساعةٍ كاملةٍ في كل مرةٍ والتي لم تنقطع حتى وفاته .. تذكرت فرحته بولديه مازن وحازم .. تذكرت مرضه وشكواه المستمرة من آلام ظهره التي ظل يعاني منها كثيرًا في سنواته الأخيرة .. تذكرت وقوفي ليلة وفاته أمام المغسلة بالمستشفى وأنا في حالةِ ذهولٍ .. تذكرت جنازته هذا الصباح والتي حضرها مئات الأشخاص وهم يبكونه في صدقٍ غير مصدقين مثلي أنه قد تُوُفِّيَ .. تذكرت جسده المُسَجَّى في نعشه وأنا أُلقي عليه نظرةً أخيرةً .. انهارت دموعي أنهارًا بينما يصدح في رأسي فجأةً صوت أحمد منيب يشدو في حزنٍ وأسى:

في دايرة الرحلة .. طُرُق بنا تِخْلَى
آه يا حبيب عمري .. وصُحبتي وقمري
عيون مرة تِبعد .. خطاوي مرة تِعند
حنين جوّانا يحكي .. وشوق جوّانا يبكي
والدمع ساقية كبت
في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى

من بين دموعي التي لم أستطع كبح جِماح هُطُولها أمام قبره، مرَّ شريط الذكريات أمام ناظريَّ سريعًا في ومضاتٍ خاطفةٍ .. تلك الذكريات التي جمعتني بأطيب من عَرَفْتُ في حياتي .. وسيم.
أدركتُ قبل أنْ أغادر المقابر أنَّ هذه اللحظة ستكون لحظةً فارقةً في حياتي، وأنَّ قادم الأيام لن يكون كسابقها.


الرسالة الثانية: الخامسة والثلاثون - السبت 16 يناير 2016

اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. ينتابني شعورٌ غريبٌ بانتهاءِ مرحلةٍ لن تعود، وبابتداءِ مرحلةٍ جديدةٍ بغموضها وأسرارها ومسئولياتها.
اليوم بَدَأْتُ أُدرك لماذا لا يفرح أبي دائمًا بيوم مولده منذ أن بلغ نفس العمر تقريبًا.
أشعر وكأن دورة الحياة قد بلغت ذُروتها اليوم، وسوف تبدأ في الانحدار بدءًا من يوم غدٍ .. قلبي يخبرني بذلك .. حتى التقويم على الحائط يخبرني بذلك .. فاليوم هو 16/1/16 .. كأنه نقطة انعكاس لما سبقه من سنوات.
اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. وقد رحل عن الحياة صديقٌ من الأعزاء قبل أيامٍ قليلةٍ .. فهل بدأ العِقْدُ في الانفراط؟! .. هل أكون أنا القادم؟!
اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. أشعر أن ذلك الطفل الذي كُنْتُهُ لن يعود مرةً أخرى .. اليوم يُولَدُ شخصٌ آخرَ جديدٌ يريد أن يتعلم من أخطاء الماضي .. فربما ما بَقِيَ من العمر لن يكون بقَدْرِ ما مضى منه.
لا بد أن أغتنم كل دقيقةٍ من وقتي - بل كل لحظةٍ - وأستمتع بها في فعل ما أحب ..
أقرأُ كتابًا ..
أكتبُ خواطري ..
أحفظُ آياتٍ من كتاب الله ..
أذهبُ إلى مكانٍ جديدٍ لم تطأه قدماي ولم تَرَهُ عينايَ من قبل ..
أُمَارسُ الهواية التي أحبها ..
أخرجُ مع أصدقائي المقربين ..
أقومُ بجولةٍ نيليةٍ في مركبٍ صغيرٍ ..
ألعبُ كرة القدم مع أصدقاء الطفولة ..
أسافرُ مع أسرتي في إجازة نهاية الأسبوع ..
أستقلُ القطار إلى مدينةٍ لم أزُرْها ..
أبِرُّ والديَّ وأصِلُ رحمي ..
أفعلُ الأشياء التي كانت تسعدني في طفولتي دون أن أخجلُ بحجة أنني قد كَبِرْتُ ..
أذهبُ إلى دار الأوبرا وأستمتعُ بحفلٍ موسيقي..
أصعدُ إلى سطح بيتي ليلاً بعد أن ينام الناس وأنظرُ إلى السماء وأخاطبُ الله وأبُوحُ إليه بما يُثقلُ على قلبي من همومٍ وما يجثم على روحي من آلامٍ ..
أفعلُ أي شيءٍ يُدخلُ السعادة إلى قلبي .. لن أكون روتينيًا ..
سأجعل يومي مُختلفًا عن سابقه ..
لن أتعلل بضغط العمل ومسئوليات الأسرة ..
لن أقول: " لقد كَبِرْتُ " ..
لن أتكاسل ولن أتصنع العوائق لنفسي ..
لن أجعل حياتي مملةً رتيبةً ولن أصنع من أيامي صورةً متكررةً، فأنا لن أعيش إلا حياةً واحدةً واللحظة التي تمر فإنها لن تعود مرة أخرى ..
لن أحبس نفسي في سجنٍ أنا من يملك مفتاحه .. سأطرقُ كلَّ بابٍ للسعادة .. وبإذن الله ستكون مفتوحةً.


الرسالة الثالثة: إذاعة الأغاني - الخميس 21 يناير 2016

أنتهيتُ لِتَوِّيَ من قراءة آخر روائع كاتبي الأثير عُمر طاهر (إذاعة الأغاني) .. كان الكتاب هو أول ما قرأتُ بعد وفاة صديقي (وسيم) رحمه الله .. أخذتُ بنصيحة أحد أصدقائي المقربين بأنْ أبدأ في قراءة كتابٍ ما حتى أخرج من جو الاكتئاب الذي لازمني منذ صدمة رحيل (وسيم) .. عَرَضتُ على أصدقائي في (جروب القراءة) على (فيس بوك) أن يرشِّحوا كتابًا نقرأه سويًّا، فوقع اختيارهم على .. (إذاعة الأغاني) .. لم أكن متحمسًا للقراءة في البداية، لكن سُرعان ما شدَّني الكتاب بفكرته وموضوعاته.

فكرة الكتاب عبقريةٌ .. مَنْ فينا لا ترتبط ذهنيًّا عنده أغنيةٌ معينةٌ سمعها لأول مرةٍ مقترنةً بموقفٍ ما في حياته؟ .. أو كما لخَّص عُمر طاهر الفكرة في مقدمة الكتاب عندما قال: "بينما تجري الحياة .. ثمة أغنيةٌ ما تدور في الخلفية. بينما تدور أغنيةٌ ما .. ثمة حياةٌ تجري في الخلفية".

من بين الحَيَوَات والأغنيات الكثيرة التي جرت فوق صفحات الكتاب، استوقفتني ثلاثُ فَقَرَاتٍ كانت مُتَخفِّيةً بين السطور وبين الألحان، لكنها حَمَلَتْ بين حروفها وميضًا كـ(فلاش كاميرا) سطع فجأةً وسط الظلام، انعكس على عقلي بثلاث ومضاتٍ خاطفةٍ تَوَقَّفْتُ أمامها بكثيرٍ من التفكير والتدقيق، لأشعر وكأن (عمر طاهر) كان يقصدني أنا بالذات، أو كأن الله سخَّر (عمر) لي ليجعل من كلماته وسيلةً لإيصال رسالةٍ من روحه إلى روحي .. رسالةٌ جاءت في توقيتٍ مثاليٍّ، أو كما قال (عمر) في حكايته (فرصة عُمْر): "بعيدًا عن كل تلك اللحظات التي تقول إنك كبرت، يظل الشعور الحقيقي بالمسألة مرتبطًا بلحظةٍ مُفْرَغةٍ لا حدث فيها. مجرد رسالةٌ عابرةٌ يلتقطها العقل بدون مقدماتٍ من مكانٍ مجهولٍ، تقول للواحد إنه تجاوز مرحلةً ما في الحياة، بينه وبينها ما يكفي الآن لأن يتأملها بهدوء."

لقد كنت بالفعل في حاجةٍ ماسةٍ إلى رسالةٍ كتلك كي أتأملها في هدوءٍ .. كانت أُولى رسائل (عمر) لي في حكاية (فرصة عُمْر) تقول: ((أنا أشعر بإرهاقٍ ما في هذه اللحظة لم أعرفه من قبل، أنا أيضًا لديَّ أحزانٌ لم أتوقف عندها لأعطيها حقها من الانتباه. كانت قفزاتي أوسع مما يجب، لدرجة أنني لم أتوقف لأتأمل ما سقط من جيوبي أثناء القفز، كنتُ ألهث دون أن أعطي شيئًا واحدًا في حياتي حقه كاملاً، ومثلما يسابق الكلارينت صوت الحلاني كنت أنا أسابق الحياة بحثًا عن شيءٍ ما لا أعرفه. الآن تحديدًا يُوجعني بشدةٍ أنني لا أعرفه .. لقد كبرت.))

ثاني رسائل (عمر) لي كانت في حكاية (حلوة يا بلدي)، يقول لي فيها: ((أَمُرُّ كل يومٍ بمحلٍ يبيع الأدوات الموسيقية، يضع في الفاترينة جيتارًا أبيض اللون، أتوقف أمامه كل مرةٍ وأسأل نفسي: هل أدخل لأشتري هذا الجيتار أم أنه يجب أن أتعلم العزف أولاً؟
كنتُ أخاف أن يستغرقني تعلم العزف فيضيع مِنِّي الجيتار الأبيض ويشتريه شخصٌ آخرَ، وكنتُ أخاف أن أشتري الجيتار ثم أكسل عن تعلم العزف فيتحول إلى قطعة ديكور في غرفتي.
مرت فترة طويلة دون أن أحسم قراري، لم أتعلم العزف، ولم أشترِ الجيتار، اكتفيت فقط بأن أَمُرُّ به كل يومٍ لأطمئن أنه ما زال معروضًا للبيع.))


كانت رسالة (عمر) الثالثة لي في آخر حكايات الكتاب (نور العين)، وكان يقول لي فيها: ((يحدث أحيانًا أن يقع الواحد من نفسه، يفقد فجأةً كل ما يعرفه من أهدافٍ أو أحلامٍ، أو ربما يسير بداخل واحدٍ منها بلا وعي، يسقط عن الواحد إحساسه بالزمن، ربما من فرط الرتابة أو فرط الإثارة، تسيطر ميكانيكيةٌ ما على طريقة حياته، فهو يتحرك بالفعل، لكن جسده فقط هو الذي يتحرك، بينما لا توجد بقعة نورٍ واحدةٍ في الروح أو الوعي.
تهجم هذه اللحظة عليك دون أن تدري، لن تعرف أنك كنت تسير فاقد الوعي إلا مع لحظة النهاية، عندما يحدث ما يجعلك تستفيق، تعود إلى روحك فتعرف أنك كنت بعيدًا، هناك من يغادر لحظات اللاوعي هذه بصدمةٍ، وهناك من يُوَدِّعُها على باب فرحةٍ مفاجِئةٍ، هناك من يحتاج إلى جلسة كهرباءٍ أو ما يُشْبهها، لكن في كل الأحوال عند عودتك ستسأل نفسك كثيرًا: أين كنت؟ وكيف انقضت تلك الفترة وأنت مُنَوَّمٌ؟ ستفكر كثيرًا، لكن لحظة الإفاقة ستمحو كل ما سبق، وستجعلك تمسك بطوق نجاةٍ ألقته إليك سفينةٌ لم تكن تبحث عنك.))


شكرًا (عمر طاهر) .. لقد وَصَلَتْ رسائلُك إليَّ كاملةً .. فَقَدْ كان كتابك (إذاعة الأغاني) هو السفينة التي لم تكن تبحث عنِّي .. لكنها ألقتْ إليَّ بطوق النجاة الذي أنقذني من الغرق ليُوصِلني إلى الشاطئ بسلامٍ.

الأربعاء، 6 أبريل 2016

رواية (قرية ظالمة) - محمد كامل حسين



الرواية عبارةٌ عن كتابٍ فلسفي من الطراز الأول، صاغه الكاتب في قالبٍ روائي .. لذلك لا أعتبرها روايةً، حيث أنها تختلف في أسلوبها وعناصرها وحواراتها عن الشكل التقليدي للرواية، وأعتقد أن تقييمها باعتبارها "رواية" سيكون فيه ظلمٌ وغُبنٌ كبيرٌ لها لافتقادها عناصر الرواية المتعارف عليها عند أهل الأدب، والأفضل هو التعامل معها باعتبارها "كتابًا فلسفيًّا" استخدم فيه الكاتب ألعابًا عقليّةً في شكل حواراتٍ ومناقشاتٍ تشحذ العقول وتثير الفكر، تغوص في أعماق النفس البشرية بطباعها وتقلباتها ونظرتها – التي تختلف من شخصٍ لآخرٍ ومن جماعةٍ لأخرى – لعددٍ من المفاهيم الحياتية؛ كالحق والباطل والضمير والحب والعدل والعلم والدين والإيمان والرمز والألم والخير والشر والنظام والحرب والبطولة والخيانة.

وقد استخدم الكاتب - لإيصال رؤيته - حدثًا محوريًا ومؤثرًا في تاريخ البشرية، وهو قضية صلب السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، طارحًا الأمر – بعيدًا عن الجوانب التاريخية والدينية للحدث – من خلال ثلاث زوايا وأُطُرٍ مختلفةٍ، فقسَّم الكتاب لثلاثة أقسامٍ متصلةٍ منفصلةٍ تدور جميعها في اليوم الذي اجتمع فيه بنو إسرائيل لتنفيذ حُكمهم الظالم بصلب المسيح عيسى عليه السلام؛ القسم الأول: عند بني إسرائيل، والقسم الثاني: عند الحواريين، والقسم الثالث: عند الرومان .. وكيف أن كل طرفٍ من الأطراف الثلاثة قد اختلفت رؤيته للحقيقة الواضحة الجليّة (دعوة المسيح ورسالته السماوية)، وكيف انتهى الأمر بإصدار بني إسرائيل الحُكم عليه بالإعدام رغم أنهم أهل دينٍ وقيمٍ، إلا أن تفقههم في الدين لم ينجهم من الضلال لأنهم رفضوا أن يحتكموا إلى "ضميرهم" .. ثم ينقلنا الكاتب لاجتماع الحواريين بعد إصدار الحُكم، وكيف أنهم اختلفوا حول كيفية تعاملهم مع الحدث ودفاعهم عن معلمهم وقائدهم، رغم أنه لم يكن على وجه الأرض وقتها من هم أطهر منهم نفسًا وأعظم خُلُقًا، إلا أنهم كادوا أن يقعوا في الفتنة لولا تدخل الحكيم الماجي.

وخَلَصَ الكاتب في النهاية إلى أن البشر لا يتعظون أبدًا، وسيختلفون حول قضايا ومفاهيم حياتية - قد تبدو بديهيةً - مهما كانت الحقيقة جليّةً، وأرجع ذلك إلى أن هناك ثلاث قوى تعمل في حياة البشر وهي: "القوة الحيوية" وما فيها من غرائزَ وشهواتٍ ونزعاتٍ، و"قوى العقل" وما فيها من قدرةٍ على المعرفة، و"قوة الضمير" وما فيها من إدراكٍ للحق والباطل .. ويرى الكاتب أن كل قوةٍ منهم تحتوي على خيرٍ وشرٍ .. ويرى أن أوجه الخير في القوى الثلاث تتعارض فيمحو خيرُ كلٍ منها خيرَ الأخرى وينجم الشر! في حين أن أوجه الشر في القوى الثلاث تتحد فيشتد بأسها! .. ويرى أن لكل قوةٍ فريقًا يؤمن بأن السيادة يجب أن تكون للقوة التي يؤمن بها فيتعصب لها .. ويرى أن أصل الداء هو أن كل فريقٍ يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن القوة التي يتبعها هي الصواب، وأن كل من خالفها فهو على خطأ .. ويرى أن الحل والإصلاح إنما يكون في تهذيب هذه القوى الثلاث كي لا يطغى إحداها على الأخرى، وأن الاعتدال وحده هو الذي يجمع هذه القوى على الحق، فتكون بذلك "القوة الحيوية" مصدر نشاطٍ، وتكون "قوة العقل" دليلاً وهاديًا، وتكون "قوة الضمير" مانعةً لهما من الشطط.

وربط - في خاتمة كتابه – بين تلك النظرية وبين ما حدث من بني إسرائيل والحواريين والرومان يوم جمعة الحُكم بإعدام المسيح، حيث تجمّعت كل عوامل الضلال والخطأ في ذلك اليوم فحدث ما حدث .. فإذا ما تعلم الناس - في يومنا هذا - الدرس المستفاد مما حدث ونجحوا في تجنب عوامل الضلال والخطأ وهذبوا من غرائزهم وعقولهم وضمائرهم، فسوف يرون الحق حقًا والباطل باطلاً .. أما إذا ما تعصب كل فريقٍ للقوة التي يتبعها دون اعتبارٍ لبقية القوى، فسوف يرون الحق باطلاً والباطل حقًا، وبالتالي سيطالبون بإطفاء كل شمسٍ ساطعةٍ وسيعملون على طمس كل آيةٍ بيّنةٍ وصلب كل حقيقةٍ جليّةٍ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

الاثنين، 28 مارس 2016

استمتع بحياتك

اغتنم كل دقيقةٍ من وقتك - بل كل لحظةٍ - واستمتع بها في فعل ما تحب ..
اقرأ كتابًا ..
اكتب خواطرك ..
احفظ آياتٍ من كتاب الله ..
اذهب إلى مكانٍ جديد لم تطأه قدماك ولم تره عيناك من قبل ..
مارس الهواية التي تحبها ..
اخرج مع أصدقائك المقربين ..
قم بجولةٍ نيليةٍ في مركبٍ صغيرٍ ..
العب كرة القدم مع أصدقاء الطفولة ..
سافر مع أسرتك في إجازة نهاية الأسبوع ..
استقل القطار إلى مدينةٍ لم تزرها ..
بِر والديك وصِل رحمك ..
عرِّف من تحبه أنك تحبه ..
افعل الأشياء التي كانت تسعدك في طفولتك دون أن تخجل بحجة أنك قد كبرت ..
اذهب إلى دار الأوبرا واستمتع بحفلٍ موسيقي ..
اصعد إلى سطح بيتك ليلاً بعد أن ينام الناس وانظر إلى السماء وخاطب الله وبُحْ إليه بما يُثقل قلبك من همومٍ وما يجثم على روحك من آلامٍ ..
افعل أي شيءٍ يُدخل السعادة إلى قلبك ولا تكن روتينيًا ..
اجعل يومك مختلفًا عن سابقه ..
لا تتعلل بضغط العمل ومسئوليات الأسرة ..
لا تقل: ''أنا كبرت'' ..
لا تتكاسل ولا تصنع العوائق لنفسك ..
لا تجعل حياتك مملةً رتيبةً ولا تصنع من أيامك صورةً متكررةً، فأنت لن تعيش إلا حياةً واحدةً، واللحظة التي تمر لن تعود مرة أخرى.
لا تحبس نفسك في سجنٍ تملك أنت مفتاحه .. واطرق كل بابٍ للسعادة، صدقني .. ستجدْه مفتوحًا :)

الخميس، 24 مارس 2016

حكايتي مع عمارة (8) .. قسم عمارة، مصنع الرجال



هناك اعتقادٌ سائدٌ لدى طلاب كلية الهندسة عامةً بأن قسم عمارة قسمٌ دخيلٌ على الكلية ولم يكن ينبغي له أن يكون من بين أقسامها ..
فمنهم من يقول بأن قسم عمارة هو "أدبي هندسة" ..
ومنهم من يدَّعي بأن قسم عمارة هو "قسم الفرافير" ..
ومنهم من يؤمن بأن طلاب عمارة لا يحملون همًّا للدنيا ولا يشغل بالهم إلا الاستماع إلى الأغاني والخروجات التي لا تنتهي بحجة الأبحاث ..
ومنهم من يشيع – تصوروا؟! - بأن "بنات هندسة الحلوين" لا تجدهن إلا في قسم عمارة!! .. بل ويحسدوننا – نحن "أولاد عمارة" - على ذلك !!..
لا أدري في الحقيقة من أين جاءت لهم هذه الخيالات والأوهام .. فهؤلاء لم يجرِّبوا أن يواصلوا الليل بالنهار – دون نومٍ – ليومين وأحيانًا لثلاثة أيامٍ متصلةٍ، كي ينهوا – بالكاد - مشروع مادة التصميم أو يسلِّموا لوحات مادة الـ Working أو ينتهوا من بحث مادة الـ Urban في موعده ..
هؤلاء لم يُوضعوا تحت ضغط العمل لعددٍ من الأبحاث والمشاريع تخص ست موادٍ دراسيةٍ مختلفةٍ في توقيتٍ واحدٍ ..
هؤلاء لم يجرِّبوا إحساس أن تمتحن مادةً زمن إجابتها ثمان ساعاتٍ – مادة التصميم المعماري – بل وتتمنى لو يمتد وقت الامتحان لثمان ساعاتٍ إضافيةٍ أخرى .. يقف فيهم طالب عمارة محنيّ الظهر دون أن يجلس، مُطَالَبًا بأن يقوم بعمل رسوماتٍ تصميميةٍ كاملةٍ من مساقطَ وواجهاتٍ وقطاعاتٍ ومنظورٍ وإظهار كل ذلك وتلوينه بعد أن يأتي بفكرةٍ تصميمةٍ لمشروعٍ ما، لم يره ولم يسمع عنه في حياته إلا داخل لجنة الامتحان !!.. هؤلاء لم يجرِّبوا ذلك الشعور لأن أقصى وقتٍ قضوه في امتحان أي مادةٍ من مواد أقسامهم لم يتجاوز الثلاث ساعاتٍ ..
هؤلاء قد تعوَّدوا على رفاهية "فونسة" اللوحات ونقل "شيتات" الـ Steel والـ Structure والـ Concrete، ثم في النهاية يقولون على طالب عمارة أنه "فرفور" !!..
هؤلاء كان مشروع تخرجهم يتم في إطار مجموعةٍ لا تقل عن ثلاثة طلابٍ، بينما طالب عمارة "الفرفور" هو الوحيد بين طلاب جميع أقسام الكلية الذي يقوم بتنفيذ مشروع تخرجه بمفرده ..
هؤلاء يتناسون أن طالب عمارة هو الوحيد بين طلاب جميع أقسام الكلية الذي لا يعرف طعمًا للإجازات أيام الجمع والأعياد، حيث يقضي طالب عمارة وقته أثناء هذه الإجازات في عمل بحثٍ مع مجموعته، أو تبييض مشروعٍ بصالة الرسم بالكلية، أو زيارةٍ ميدانيةٍ لمكانٍ يتطلبه أحد الأبحاث أو المشاريع ..
هؤلاء لا يعرفون إحساس أن تمكث خارج البيت بالأيام لا ترى أهلك وتأكل من الشارع، ويكون بيتك هو "صالة الرسم" بالكلية والتي يقضي بها طالب عمارة ثلاثة أرباع وقته في أغلب الأيام، بينما ينصرف الآخرون مهرولين إلى منازلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي في الثالثة عصرًا - على أقصى تقديرٍ – للحاق بوجبة الغداء مع أهليهم والاستمتاع بالنوم ساعة القيلولة ..

كنت أتحدث منذ أيامٍ مع أحد أصدقائي عن العمل ومشاكل الحياة، فقال لي: "مهنة الهندسة شاقة .. كان الله في عونكم وقدَّركم على الضغط الذي تعانون منه في عملكم".
ابتسمت وأنا أتذكر أيام الشقاء أثناء الدراسة بالكلية، وقلت له: "لن تصدقني إذا قلت لك أنه رغم أنني أعمل منذ ما يقارب الأربعة عشر عامًا منذ تخرجي وحتى اليوم، إلا أنه مهما بلغت درجة الضغوط والصعوبات في العمل فإنني لم أرَ في حياتي ضغوطًا وصِعابًا أكبر مما مررت به في السنوات الأربعة التي قضيتها في دراسة العمارة .. وهذا ساعدني في عملي وفي حياتي بوجهٍ عامٍ على اجتياز أية ضغوط قد تحدث لي بكل بساطةٍ، فمهما زادت فلن تبلغ ربع ما مررت به أثناء الدراسة في عمارة".
وسرحت بعيدًا وأنا أتذكر تلك الأيام الصعبة والتي – رغم مشقتها وقسوتها – أتمنى لو تعود الصحبة واللمة التي كانت تجمعنا داخل جنبات صالة عمارة بمناضدها الضخمة ومشاريعنا المتراصة عليها وكراسيها العالية وسهراتنا ولحظات الفرح ولحظات المرارة ..
أتمنى لو كانت الذكريات الجميلة يمكن أن تترجم إلى واقعٍ ملموسٍ يمكن معايشته وتكرار مشاهده وأحداثه .. لكن – بكل أسفٍ – تبقى الذكريات دائمًا حبيسةً داخل جدران عقولنا وقلوبنا، وأقصى ما يمكن أن نفعله - كي نحررها من محبسها - أن نتحاكى بها في جلسة سمر مع أصدقاء العمر، أو نخرجها في صورة كلماتٍ على الورق ننفث بها عما يجيش في صدورنا من حنينٍ وشوقٍ لأيامٍ لن تعود.

السبت، 19 مارس 2016

رواية (مزرعة الحيوان) - جورج أورويل



للوهلة الأولى قد يبدو للقارئ أن هذه الرواية مخصصة للأطفال نظرا لأن أبطالها من الحيوانات .. لكن ما أن تتوغل في أحداثها حتى تجد نفسك وقد فغرت فاك من الذهول، فحيوانات تلك المزرعة يتشابهون إلى حد التطابق التام مع شخصيات واقعنا الذي نعيشه .. بل أجزم أن هذه الرواية تصلح لكل الأزمان ولكل الشعوب التي مرت أو تمر أو ستمر بالثورة وتوابعها بكل مراحلها وبمنتهى الدقة وبنفس التفاصيل والشعارات والشخصيات! .. ولو لم أكن أعرف أن جورج أورويل قد كتب هذه الرواية عام 1945 وأنه توفي بعدها بخمس سنوات عام 1950، لقلت أن هذه الرواية قد كتبت بعد 3 يوليو 2013 !.
فلو حاولنا إسقاط شخصيات الرواية على واقعنا الحالي بعد هذا التاريخ الذي ذكرته، لوجدنا ما يلي:
- ألا يرمز السيد جونز صاحب المزرعة المطرود إلى الرئيس السابق حسني مبارك؟!
- ألا يرمز الخنزير ميجور العجوز إلى كل من نادى أيام حكم مبارك بضرورة الثورة؟!
- ألا يرمز الخنزير نابليون وخنازيره المقربون إلى النظام الحاكم الآن؟!
- ألا يرمز الخنزير سنوبول إلى مرسي وجماعة الإخوان، والذي يلصق به سنوبول وإعلامه دائما أي مصيبة أو تخريب يحدث بالمزرعة؟!
- ألا ترمز الكلاب الشرسة التي تحمي نابليون وحاشيته إلى الشرطة .. والذين يمثلون مصدر تهديد ووسيلة ردع لكل حيوان تسول له نفسه الاعتراض أو حتى مجرد التفكير بشيء من المنطق؟!
- ألا يرمز الخنزير سكويلر إلى أبواق إعلام النظام، والذي يبرر للحيوانات دائما كل قرار وكل تصرف يصدر من نابليون ويشوه سمعة كل من يعارض هذه القرارات، ويلمح مع كل قرار مجحف لنابليون إلى أن ذلك أفضل من عودة النظام القديم؟! .. ألا ترون أن سكويلر يشبه إلى حد مرعب أحمد موسى؟!
- ألا يرمز الغراب موسى إلى رجال الدين الذين يستغلون الدين ويلوون عنق أحكامه لخدمة أغراض السلطة الحاكمة .. وإيهام الحيوانات دائما بأنهم يجب أن يتحملوا الفقر في الدنيا بكل صبر ورضا أملا في الخيرات الذي تنتظرهم خلف جبل الحلوى الذي سيذهبون إليه بعد الموت؟!
- ألا يرمز الحمار بنجامين إلى المواطن العجوز الذي عاصر أكثر من حاكم للمزرعة، ولا يعترض على فساد أو ظلم مهما حدث ويقف دائما موقف المتفرج، ولا يتدخل ولا يبدي رأيه في أي أمر من أمور السياسة إيمانا منه بنظرية ''أن الحمير تحيا لوقت طويل .. إن أحدا منكم لم ير حمارا ميتا''؟!
- ألا يرمز الحصان بوكسر إلى الموظف المخلص الذي يعمل بكل جد وإخلاص وتفان في عمله لتحقيق أغراض ورغبات وشعارات السلطة الحاكمة، ظنا وإيمانا صادقا منه أنه بذلك إنما يخدم الوطن، تطبيقا لنظرية ''سأعمل بجهد أكبر .. نابليون دائما على حق''؟!
- ألا ترمز الخراف إلى عامة الشعب الذين يؤيدون الحاكم على طول الخط أيا كانت قراراته ومهما كانت متضاربة فإنهم يهللون لها ويرددونها في حماس من أعماق قلوبهم؟! .. تذكروا رفضهم في البداية لطرد السيد جونز بحجة أن ''السيد جونز يطعمنا .. فلو ذهب لمتنا جوعا'' .. ثم هتافهم الدائم - بعدما انفرد نابليون بالحكم - لشعار ''الخير في الأقدام الأربعة والسوء في القدمين'' ثم تغييرهم للشعار بين عشية وضحاها لمجرد أن نابليون قد غيره حين راحوا يرددون بنفس الحماس السابق ''أربعة أقدام جيد .. قدمان أفضل''، رغم أن الشعارين متناقضان؟!
- ألا يرمز السيد فريدريك إلى منظمة حماس، ومزرعته المجاورة لمزرعة الحيوان ترمز لقطاع غزة؟!
- ألا يرمز السيد بلكينغتون إلى أمريكا وإسرائيل؟! .. فدائما ما يتم إظهار العداء له في العلن ويتم إيهام الحيوانات بأنه عدو، بينما يتم التقرب إليه في السر ويتم اللعب على طاولته والارتماء في أحضانه كل ليلة؟!

حتى الشعارات أدهشني تطابقها .. ''فلتحيا الطاحونة ولتحيا مزرعة الحيوان'' .. ''جميع الحيوانات متساوية .. لكن بعضها متساو أكثر من الآخر''.

ألا يشبه مشروع بناء الطاحونة مشاريع ''الفناكيش'' التي يروج لها النظام ليل نهار، والتي تستنزف جهد ومال الحيوانات فيما لا طائل ولا فائدة من ورائه إلا خلق أهداف وهمية تلتف حولها الحيوانات لإلهائها وجعلها تحيا على أمل زائف طيلة الوقت؟!

لو ظللت أعدد الرموز بتلك الرواية، فلن تخرج أية شخصية من شخصياتها أو حدث من أحداثها أو جملة من حواراتها عن شخصيات وأحداث وحوارات واقعنا المرير بعد زوال حكم مبارك .. التطابق مرعب ويدل على عبقرية الكاتب تماما كما يدل على غباء الشعوب الثائرة التي تكرر أخطاء الشعوب التي سبقتها في الثورة وتعيد نفس الأخطاء بنفس السيناريو رغم أنها واضحة وضوح الشمس كما عبر عنها جورج أورويل في رائعة كل العصور (مزرعة الحيوان)، والتي بالرغم من وضوحها فإننا نكررها بحذافيرها بمنتهى الإصرار دون زيادة أو نقصان!!.

تفييمي بالدرجات: عشرة من عشرة بلا أدنى تردد.

الجمعة، 11 مارس 2016

حكايتي مع الكونسر فتوار ​ (1)



الزمان: سبتمبر 1987 م

كنت في أواخر الإجازة الصيفية قبل بدء العام الدراسي للصف الثاني الابتدائي، ألهو مع أقراني في الشارع أمام منزلنا وقت العصر .. شاهدت أبي في أول الشارع وهو قادمٌ من عمله ويحمل في يديه أكياس الفاكهة، فتركت أصحابي وهرولت نحوه فرِحًا بقدومه .. طلب أبي مني الدخول للمنزل وترك اللعب لاحتياجي في أمرٍ هامٍ .. تذمرت قليلاً كأي طفلٍ برئٍ يتذمر عندما يحلو لأحد والديه أن يفسدا عليه لهوه .. طلبت من أبي أن يمنحني خمس دقائقٍ إضافية – دائمًا كل الأطفال يحتاجون خمس دقائق إضافية - فرفض والدي وأصر أن أتبعه إلى البيت فورًا .. تركت أقراني ومشيت وراءه وأنا أتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ مصحوبةٍ بنشيجٍ متقطعٍ .. توقف أبي ونظر لي نظرةً أوقفت الدماء في عروقي، فالتزمت الصمت كأي طفلٍ مؤدبٍ يحترم نفسه عندما ينظر إليه أبوه تلك النظرة .. كنت أتوقع أن يطلب مني أن أشتري أي طلبٍ لأمي لاستكمال الغداء .. خبزٌ .. كيلو طماطم .. كيس ملح .. حزمة جرجير .. باكو شاي .. أو أي شيءٍ من هذه الطلبات التي لا تظهر إلا وقت اللعب.
انتظرت حتى انتهاء أبي من تغيير ملابسه ودخوله دورة المياه ثم تأدية صلاة العصر .. وفي هذه الأثناء سألت أمي عمّا تحتاج لشرائه، فقالت بأنها لا تحتاج لشيءٍ .. لماذا إذن طلبني أبي وجعلني أترك اللعب ما دامت أمي لا تحتاج لشيءٍ؟!
نادى عليَّ أبي بعدما أنهى صلاة العصر، وسألني سؤالاً غير مُتوقَع:
- "تحب تتعلم موسيقى؟"
- "يعني إيه موسيقى يا بابا؟"
- "تعالى معايا بكرة مشوار وأنا أعرفك إيه هي الموسيقى"
طرت من الفرحة، ليس بسبب أنني سأعرف ما هي الموسيقى، ولكن لأنني سأخرج مع أبي في الغد.


********************

في اليوم التالي، خرجت مع أبي منذ الصباح الباكر .. مررنا أولاً على عمله في جاردن سيتي، ثم توجهنا إلى "المشوار" الذي لم أعرف - حتى لحظتها - إلى أين.
- أحنا رايحين فين يا بابا؟
- رايحين معهد الكونسر فتوار.
- إيه التونسر تتوار ده يا بابا؟!
- هتعرف لما نروح.
وصلنا إلى ذلك المكان المكتوب على بوابته الكبيرة من الخارج (أكاديمية الفنون) .. توجهنا إلى أول مبنى صادفنا على اليمين بعد عبور مدخل البوابة، وكان مكتوب على لوحته الجدارية (المعهد العالي للكونسر فتوار) .. كانت له درجات سلم تمهيدية تسبق مدخله الرئيسي الذي يؤدي إلى بهو داخلي واسع يتفرع منه سلمان عن اليمين وعن الشمال يلتقيان في ممر بالدور الأول، يمكن للواقف فيه أن يرى بهو المدخل الرئيسي للمبنى بالدور الأرضي .. انحرفنا يسارًا فرأينا قاعةً في نهاية الدور الأول مكتوب عليها (قاعة أبو بكر خيرت) .. عرفت فيما بعد أنه مهندس معماري وعازف بيانو من جيل الرواد الأوائل وأول عازفٍ مصري وضع الموسيقى المصرية في قالبٍ سيمفوني، وهو الذي أسس معهد الكونسر فتوار في مصر، وهو عم الفنان العبقري (عمر خيرت) .. وقاموا بتسمية تلك القاعة التي رأيناها على اسمه تخليدًا لذكراه.
استكملنا الصعود على أقدامنا على سلمٍ آخر مجاور لقاعة (أبو بكر خيرت) إلى الطابق الذي يليه، فسمعت أصواتًا عاليةً صادرةً من إحدى الغرف كأنها أصوات آلاتٍ موسيقية لكنها صادرة من حنجرةٍ بشريةٍ .. فيما بعد عرفت أن هذا الطابق خاص بالغناء الأوبرالي، الذي كان من أبرز نجومه في ذلك الوقت الفنانة عفاف راضي والفنانة نيفين علوبة.
سألت أبي عن هذا المكان الغريب، فقال لي بأنني سأقابل شخصًا بعد قليلٍ سيسألني بضعة أسئلةٍ وسنمضي سريعًا .. كان اختبارًا للقدرات .. هكذا فهمت لاحقًا.
دخلت الامتحان - الذي لم أكن مستوعبًا أنه امتحان – وطلب مني الممتحِن أن أستمع إلى النغمة التي سيضربها على البيانو وأن أحاول تقليد نفس النغمة بصوتي .. فعلت ما طلبه مني، فضرب نغمةً مختلفةً فقلدت نفس درجتها، وهكذا تكرر الأمر لأكثر من نغمةٍ أخرى .. لا أتذكر تفاصيل إضافية أكثر من أنه طلب مني في نهاية الامتحان أن يرى أصابع يدي، فمددت له يدي الصغيرة .. تفحصها باهتمام، ثم ابتسم لي ابتسامة ودودة وربت على رأسي، ثم انصرفت مع أبي عائدين للمنزل.

********************


كان أبي قد ألحقني في العام المنصرم بمعهد عمرو بن العاص الابتدائي الأزهري القريب من منزلنا .. حيث كانت المعاهد الأزهرية – ولا تزال – تقبل الالتحاق بها للصف الأول الابتدائي في سنٍ أقل من ست سنواتٍ، على عكس المدارس الأخرى التي تشترط ألا يقل السن عند بداية العام الدراسي عن ست سنواتٍ .. فاتخذها أبي فرصةً كي يوفر لي سنةً – وخيرًا فعل - فالتحقت بذلك المعهد الأزهري وأنا في سن خمس سنواتٍ وثمانية أشهرٍ.
بعد أيامٍ قليلةٍ من زيارتنا لمعهد الكونسر فتوار، أخبرني أبي بأنني قد نجحت في اختبار القدرات وتم قبولي في المعهد وتم ترشيحي لتعلم آلة البيانو .. وخيّرني إن كنت أود الاستمرار في المعهد الأزهري أم أنتقل إلى معهد الكونسر فتوار.
أشهد لأبي أنه عوّدني منذ صغري على اختيار قراراتي بنفسي دون إجبارٍ منه، وكان يوضح لي الفارق بين الاختيارات بكل صدقٍ وحياديةٍ ثم يترك لي حرية اختيار القرار .. وكان ينبهني إلى عواقب اختياري إن شعر أنه اختيارٌ خاطئ .. لذلك فأنا أدين له بالفضل في زرع الإحساس بمسئولية القرار داخلي منذ الصغر، وتنشئتي على التحليل المنطقي لأية مشكلةٍ قد تواجهني والتمييز بين البدائل المتاحة لاختيار أفضلها.
وعندما خيّرني أبي بين الاستمرار في المعهد الأزهري وبين الانتقال لمعهد الكونسر فتوار، اخترت الانتقال للكونسر فتوار .. ليس لأنني سأتعلم الموسيقى، ولكن لأنني سأكون مع أبي كل يومٍ في مكان عمله، حيث كان أبي في ذلك الوقت مُنتدَبًا من وزارة الثقافة لمعهد الكونسر فتوار أثناء فترة العام الدراسي لتدريس مادة التربية الفنية (الرسم).
في اليوم التالي توجه أبي إلى ناظر المعهد الأزهري لتقديم طلبٍ لنقلي من المعهد الأزهري إلى معهد الكونسر فتوار .. استقبل ناظر المعهد طلب النقل بمنتهى الدهشة، وقال لأبي: "أَمِنَ الورع والتقوى إلى الرقص والمغنى؟!!" .. فرد عليه أبي ردًا تلقائيًا عبقريًا: "لعل الله يهدي به قومًا ضالين" .. في النهاية رفض ناظر المعهد التوقيع على طلب نقلي، وطلب من أبي التصرف بعيدًا عنه .. ولولا أن أبي كان يعرف "ناس مهمين" جعلوه ينهي إجراءات طلب النقل عن طريق المديرية التعليمية، لما تركتُ المعهد الأزهري، ولما كان لهذه الحكاية التي سأرويها لكم - مع معهد الكونسر فتوار - أن توجد من الأساس.

وللحكاية بقية


























الثلاثاء، 8 مارس 2016

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة



في مناسبة #اليوم_العالمي_للمرأة .. رأيت اليوم كثيرا من بنات الجنس الناعم ينشرن صورا وتعليقات تفيد بأن ''وراء كل امرأة عظيمة، نفسها'' !! .. فأرجو منهن توضيحا لما يزعمن: هل ظهرت هذه المرأة الخارقة على وجه الأرض وحدها دون أب أو أم أو أخ أو أخت أو معلم أو أي شخص آخر أثر في بناء شخصيتها وساهم في أن تصل هذه المرأة ''الخارقة'' إلى هذه الدرجة من العظمة؟! هذا بافتراض أنها غير متزوجة أو أن زوجها غير ذو تأثير على عظمتها.
لقد خلق الله الرجل والمرأة كليهما ليكمل بعضهما بعضا، فلا يتزن نظام الحياة إذا ما تخلى أي منهما عن الآخر، ولو قرر الرجال أو النساء أن يستقل كل منهما بذاته لاختل التوازن البشري ولحدث فناء سريع للجنس البشري .. فكيف تقولين بعد ذلك أن وراء كل امرأة عظيمة، نفسها؟!!
وتصحيحا للمقولة المتداولة اليوم، فأرى أنها يجب أن تكون: أن وراء كل امرأة عظيمة، أب عظيم وأم عظيمة بذلا من مجهودهما وصحتهما ووقتهما وعمرهما الكثير من أجل أن تصل ابنتهما لما وصلت إليه من عظمة.
أختي الغالية وشريكتي في الحياة على هذا الكوكب .. تدبري قبل أن تنشري أي كلام والسلام :) .. وتذكري قول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

الاثنين، 7 مارس 2016

فيس بوك ليس المكان الصحيح لعرض تفاصيل حياتك الشخصية




لا تجعل من صفحتك الشخصية على "فيس بوك" انعكاسًا لحالتك النفسية، فليس من حق كل الناس أن تعلم ما تشعر به الآن أو ما تمر به خلال يومك من مشاعر تخصك أنت وحدك أو تخص دائرةً محدودةً من معارفك .. فمرّةٌ "غضبانٌ" وتارة "مكتئبٌ ومحبطٌ" ثم بعد قليلٍ "تشعر بالتعاسة مع زوجتك".. بل اجعل من صفحتك مرآةً صادقةً تعكس شخصيتك وخصالك الحقيقية وآراءك وخواطرك في أمور الحياة بصفةٍ عامةٍ .. ذلك أفضل لك ولهم.

الأحد، 6 مارس 2016

قواعد الاحترام الأربعون - القاعدة الثانية والثلاثون

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
مــالَ واحتجــبْ
وادَّعَـى الغضــبْ
ليــت هــاجري
يشــرحُ الســببْ
عَتْبُــــه رضًـى
ليتــه عتــــبْ
عـــــلَّ بيننـا
واشـــيًا كــذبْ

لا يكون العتاب إلا بين الأحبة، أو كما يقول المثل: ''بقدر المحبة يكون العتاب'' .. فكلما زادت منزلة الشخص عندي، كلما زاد حجم العتاب بيننا .. وكلما نقصت أهمية الشخص لديَّ، كلما كان العتاب غير ذي أهمية لدينا.
فاحرص على أن تفصح لمن تحبه عما يعتمل بداخلك تجاهه إن ضايقك تصرفٌ منه أو أحزنك فعلٌ ما قام به نحوك، فربما لم يقصد أن يضايقك بفعله هذا من الأساس، وربما وشى لك واشٍ بكذبةٍ مُضَلِلةٍ فأعْمَلَت نيران الغضب والحقد بداخلك نحوه.
ولا تكتم ضيقك منه بداخلك أكثر مما ينبغي، فطول مدة الهجر تعمّق الحزن وتوغر القلوب بلهيب الخصام، كما قال الإمام الغزالي: ''الخصومة توغر الصدر وتهيج الغضب''.
واعمل على أن يكون العتاب باللين والحكمة لا بالشدة والاندفاع حتى لا تسكب المزيد من الزيت على النيران المستعرة، بل احرص على أن يكون العتاب وسيلةً لإنهاء أسباب الخلاف وتنقية العلاقة فيما بينكما من أية شوائبٍ قد أصابتها.
فسارعوا بمصارحة أحبتكم بما يضايقكم منهم .. ولا تجعلوا أسباب الخصام والغضب تتراكم في قلوبكم .. ولا تجعلوا للشيطان سبيلاً إليها، فالخصام يفتح باب الفرقة على مصراعيه .. واجعلوا العتاب مُدخلاً لإعادة أواصر المحبة التي يريد الشيطان أن يقطعها، فبقدر المحبة والمودة والاحترام .. يكون العتاب.

السبت، 5 مارس 2016

أحسنوا الاختيار قبل اتخاذ القرار

في الحياة هناك قراراتٍ مصيريةٍ تحتاج للتفكير العميق وحسن الاختيار قبل اتخاذها .. لا تستهن ولا تجازف ولا تتسرع في اختيارك حتى لا تقضي البقية الباقية من عمرك في ندمٍ لن يفيد.

الجمعة، 26 فبراير 2016

حكايتي مع عمارة (7) .. سيد .. مندوب الدفعة ​



من أكثر الشخصيات التي قابلتها في حياتي من حيث خفة الظل والروح المرحة والابتسامة التي لا تفارق وجهه .. لا أتذكر أنني قد رأيته متجهم الوجه أو غاضبًا قط .. خدومٌ لأقصى درجةٍ لكل من يعرفهم .. لا يتأخر في إسداء خدمةٍ أو تلبية طلبٍ لك في أي وقتٍ .. ذكي .. لبق في الحديث .. أسلوبه يُحَبِّب فيه كل من يتعامل معه.
من أجل ذلك لم يتردد جميع طلاب الدفعة في اختياره مندوبًا لهم في سنة أولى عمارة وحتى آخر يومٍ لنا في الكلية .. كان اختياره كمندوبٍ للدفعة باكتساحٍ تامٍ وبلا منافسةٍ .. كنا كلما أردنا أن نؤجل تسليم بحثٍ أو مشروعٍ، لا نجد من هو خيرٌ من (سيد) كي يُقنع السادة الدكاترة، وغالبًا ما كان ينجح في إقناعهم .. كان ينهي لنا أية إجراءاتٍ تنظيميةٍ أو رحلةٍ جماعيةٍ للدفعة تخص الدراسة .. كان صوتنا المسموع عند إدارة القسم وأساتذته وعند إدارة الكلية.

*********************************

في نصف العام الدراسي الثاني لسنة أولى عمارة، وبالتحديد في شهر مارس من عام 1999، نظم لنا (سيد) أول رحلةٍ دراسيةٍ .. كان يومًا لا يُنسى بدأناه بزيارة منطقة سقارة وهرم زوسر المدرج، ثم توجهنا إلى مقبرة الملكة (تي)، وأنهيناه بزيارة الأهرام الثلاثة وأبي الهول.
راح سيد يلقي بالنكات طوال الطريق، وأشاع جوًا من المرح والسعادة داخل الأتوبيس الذي يُقِلّنا .. يومها فاجأنا (سيد) بأغنيةٍ لطيفةٍ غناها لنا بطريقته التلقائية، ورددناها معه في استمتاعٍ.

أنا نونو صغير .. بنطلونه صغير
عاوز أشتري شرابات
رحت لبابا قلت له .. يا بابا أنا نونو صغير .. بنطلونه صغير .. عاوز أشتري شرابات
بابا قال لي إنت نونو صغير .. بنطلونه صغير
مش تشتري شرابات
رحت لماما قلت لها .. يا ماما أنا نونو صغير .. بنطلونه صغير
عاوز أشتري شرابات
ماما قالت لي .....................

وهكذا رحنا ننتقل مع النونو الصغير من أبيه إلى أمه إلى أخيه ثم أخته في محاولاته اليائسة لإقناعهم بشراء جوارب صغيرةٍ له، لكنهم أجمعوا على أن النونو الصغير ذي البنطال الصغير لا يمكن أن يشتري ''شرابات'' .. لا أعلم لماذا، لكننا استمتعنا بالأغنية على كل حال :) .
قبل هذه الرحلة بأسابيع قليلةٍ، وقبل حلول أول يومٍ من أيام شهر رمضان، قام (سيد) بتجميع مبلغٍ من المال من الدفعة واشترى لنا به فانوسًا كبيرًا من الصاج والزجاج قمنا بتعليقه في منتصف صالة الرسم طيلة أيام الشهر الفضيل .. وظللنا نحافظ على هذه العادة بعد ذلك في كل رمضان من السنة الأولى وحتى السنة الرابعة .. لا أعلم ما مصير هذا الفانوس بعد إنهائنا للدراسة بالكلية، وأرجو ألا يكونوا قد ألقوا به مع المخلفات.

*********************************

في العام التالي مع بداية سنة ثانية عمارة، وفي صبيحة تسليم مشروع (النادي الاجتماعي) بعد ''تطبيقةٍ'' لم نذق فيها طعم النوم .. كنت متأخرًا - كعادتي التي لم تتغير - وكان أغلب أصدقائي قد أنهوا مشاريعهم ولم يتبق لهم سوى كتابة المشروع .. كنت دائمًا ما أقوم بكتابة مشاريع أصدقائي .. كنت أبدأ بهيثم لطفي​ الذي كان أول من ينهي مشروعه في الدفعة دائمًا قبل تسليمه بأيام، وكان في المقابل يقوم لي بعمل السماء بالألوان الباستل لواجهات مشروعي .. وظللنا على هذا العهد حتى مشروع التخرج .. أكتب له مشروعه ويلوّن لي السماء.
ظللت في صباح ذلك اليوم أكتب المشروع تلو الآخر لأصدقائي، بينما مشروعي لا يزال ينقصه الكثير .. بدأت أعصابي تتوتر وكان متبقيًا أقل من ساعةٍ على موعد تسليم المشروع .. جاء (سيد) طالبًا مني كتابة مشروعه، فانفجرت فيه غاضبًا وقلت كلامًا - لا أعرف كيف قلته - عن عدم إحساس الجميع وعدم تفكيرهم إلا في أنفسهم ومصلحتهم فقط .. لم يغضب (سيد) مني ولم يَرُد على انفعالي بانفعالٍ مماثلٍ، على العكس فقد استقبل انفعالي الشديد بهدوءٍ أشد، واستطاع بذكاءٍ - أغبطه عليه - عليه أن يمتص غضبي وثورتي .. أدرك (سيد) أن غضبي - الذي لم يعتد عليه من قبل - لا بد وراءه ضغطٌ عصبيٌ ناتجٌ عن التأخر في إنهاء مشروعي .. أجلسني على كرسي وسحب كرسيًا وجلس بجواري أمام مشروعي، وقال لي:
''إنسى مشروعي خالص .. أنا هسلمه من غير ما أكتبه .. مش عايزك تضايق أو تزعل وإهدى خالص كأني ما طلبتش منك أي حاجة .. إنت لسة ما رمتش الضل .. مش كدة؟ .. فين الإقلام اليوكن البني بتاعتك عشان أرميلك الضل؟''.
نظرت إليه في دهشة .. لم يمهلني كثيرًا وقال لي: ''يالاّ بسرعة ما فيش وقت''.
أعطيته الأقلام، فبدأ على الفور في العمل .. قال لي كأنه يحدث طفلاً صغيرًا يريد أن يسترضيه:
''الله .. شفت الضل شكله جميل أوي إزاي .. الله عليك يا أبو السِيد يا جن''.
ابتسمت .. ومع استمرار حديثه لي بنفس الأسلوب الطفولي تحوَّلَت ابتسامتي إلى ضحكاتٍ عاليةٍ .. لقد نجح سيد في دقيقةٍ واحدةٍ أن يحَوِّلني مائةً وثمانين درجةً من الحالة الهياجية العصبية إلى حالةٍ من الهدوء النفسي .. تركته يستكمل ما نقص في مشروعي وتوجهت إلى مشروعه لأكتبه في رضا وقد زال عني كل غضب وتوتر، وحلَّ محلهما الشعور بالندم على ما قلته له أثناء غضبتي.

*********************************



قابلته منذ شهرين في نادي نقابة المهندسين بأكتوبر .. لم يتغير شكلاً وأسلوبًا وكأنه لم يكبر يومًا واحدًا منذ افترقنا من أكثر من ثلاثة عشر عامًا بعد التخرج .. نفس خفة الظل ونفس الروح المرحة ونفس الابتسامة التي لا تفارق وجهه أثناء حديثه.

أبو عرب .. والله إني أحبك في الله

الخميس، 18 فبراير 2016

قواعد الاحترام الأربعون - القاعدة الحادية والثلاثون

احرص على ألا تجرح أحباءك بفعل ما يضايقهم وكأنك تتعمد إيذاءهم .. تخلَّ فورًا عما ضايقهم احترامًا لهم، فخسارتك لهذا الفعل الذي ضايقهم أهون ألف مرةٍ من أن تخسر من تحب نتيجة إصرارك على عدم التخلي عما تسبب لهم من ألم.


الاثنين، 1 فبراير 2016

حكايتي مع صديقي .. محمد ربيع



منذ أن عرَّفني به صديقي (أحمد يوسف) من خلال جروب القراءة الخاص بنا على فيس بوك منذ أكثر من عام، وأنا أتمنى لقاءه ..
ومنذ أن رأيت تعليقه الأول وتقييمه للمجموعة القصصية (أنا الملك جئت) للكاتب بهاء طاهر، أدركت أنني أمام شخص مثقف من الطراز الأول ..
ومنذ أن بدأ في التفاعل والنقاش على الجروب لأكثر من كتاب بعد ذلك، عرفت أن الجروب قد ربح شخصا سيثري النقاش ويعلي من مستواه ..
وبعد أن قابلته بالأمس لأول مرة، تيقنت أنني قد ربحت إنسانا استثنائيا وصديقا قلما يجود الزمان بمثله ..
كان لقاؤنا بالإمس في مكان من أحب الأماكن إلى قلبي وعقلي، وفي حدث أنتظره بفارغ الصبر من العام إلى العام .. المكان هو: أرض المعارض بمدينة نصر، والحدث هو: معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السابعة والأربعين ..
سعادتي لا توصف لأن المقابلة الأولى معه سترتبط في ذهني إلى الأبد بمعرض الكتاب .. ذلك الحدث الذي أعتبره عيدا حقيقيا يأتي مرة واحدة فقط كل عام .. ذلك الحدث الذي لم أنقطع عنه - منذ أن اصطحبني والدي معه إلى المعرض للمرة الأولى عام 1991 - إلا عندما سافرت خارج مصر لظروف العمل .. وكم أعجبني ذلك الوصف الذي وصف به محمد ربيع بالأمس معرض الكتاب بأنه: ''ذلك العيد الذي لا يرتبط بدين أو بجنسية'' .. أربعة عشر يوما من المتعة الذاتية والسعادة الصافية .. أربعة عشر يوما تهون علي كثيرا من الإحباطات والمعاناة التي يشعر بها المواطن على أرض هذا البلد .. فبمجرد أن أجتاز بوابة المعرض الرئيسية، أشعر بأنني قد انفصلت عن العالم الموجود خارج أسوار المعرض ودخلت إلى عالمي الخاص الذي أشعر فيه بنفسي وأحس فيه بسعادتي الحقيقية والذي أتمنى لو أعيش فيه ما حييت.

مكثنا معًا خمس ساعات متواصلة لم أشعر فيها بلحظة واحدة من الملل .. فمنذ اللحظة التي استقبلني فيها محمد داخل المعرض ببشاشة وترحاب وخفة ظل وحتى لحظة افتراقنا، شعرت معه كأننا أصدقاء منذ سنوات ولم أشعر معه بذلك الحرج والتكلف اللذين يغلفان أي حديث بين أي شخصين يتقابلان للمرة الأولى .. فاجأني بهدية عبارة عن عدة كتب متنوعة بين الرواية والشعر والقصة القصيرة والدينية .. فرحت بهديته فرحة طفل تهديه أول لعبة في حياته .. قمنا بعدها بجولة سريعة في جناح الدار المصرية اللبنانية اشترى منها روايتين على سبيل الفضول لكاتبيهما ولغلافيهما (العتبة كما أطلق عليها محمد، ويقصد بها الانطباع الأول عن أي كتاب والذي يعطيك الحافز إما لشرائه وإما لتجاهله) .. ثم حضرنا جزءا من ندوة كان ضيفها رئيس الحزب المصري الاشتراكي تحدث فيها عن أن مشكلة مصر الكبرى تتمثل في التعليم الذي إن انصلح صلح البناء كله وإن فسد أفسد كل البناء، ثم بدأ الحديث عن العلمانية وأهميتها بعد فشل التجربة ''الإسلامية'' في مصر وضرورة إرسائها - أي العلمانية - كنظام حياة بعدما أفسدتها وعطلتها الأساطير (يقصد الدين) !! .. بالطبع لم يعجبنا الجزء الأخير من الكلام فآثرنا عدم تضييع المزيد من الوقت.
توجهنا بعد ذلك إلى مقهى المعرض واحتسينا القهوة التركية بينما أستمع إلى محمد في استمتاع ونشوة بالغين .. كان الحوار شيقا وممتعا وتحدثنا في كل شيء تقريبا .. الأدب .. السياسة .. الدين .. الفن .. الرياضة .. السفر .. العمل .. المولد النبوي .. العمل التطوعي .. بنها .. الفيوم .. الغردقة .. شرم الشيخ .. أحمد يوسف .. باولو كويلهو .. عم أمين الديب .. الموت .. القدوة .. ألمانيا .. هولندا .. فرنسا .. القراءة .. محمد صبحي .. مسرح مصر .. أسرة رسالة.
سَرَقَنا الوقت ولم نشعر بمرور أكثر من ساعتين إلا بعد أن فوجئنا بعامل المقهى يستأذننا في المغادرة لأن وقت إغلاقه قد حان.
خرجنا من المقهى وجلسنا على أحد المقاعد في الهواء الطلق مع نسمات ليل الشتاء الباردة والتي لم أشعر بها مع دفء الحديث .. احتسينا الكابتشينو ثم غادرنا المعرض في العاشرة مساء بينما يغلقون الأبواب خلفنا .. أوصلته إلى محطة القطار في رمسيس كي يلحق بالقطار المتجه إلى بنها، ولم أنس نصيحته لي قبل رحيله: ''اكتب بلا توقف .. وفتش عن الإيجابيات''.
لا تزال نصيحته تلك تتردد في عقلي منذ أن فارقته بالأمس .. وآمل ألا يخيب ظنه في.

لم تكن هذه كل الحكاية مع محمد ربيع .. لكنها كانت فقط البداية.

الجمعة، 29 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (6) .. أول اسكتش وأول مشروع وأول تطبيقة في عمارة

الزمان: أكتوبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

كان أول تجمع للدفعة في صالة أولى عمارة لعمل أول "اسكتش" للمشروع الأول لمادة التصميم المعماري (مشروع مدخل حديقة عامة) .. كانوا قد طلبوا منا عمل شفافات تحضيرية في المنزل للمسقط الأفقي والموقع العام والواجهة الرئيسية وقطاع طولي، قبل أن نبدأ في تبييض هذه الشفافات في أرض المعركة (صالة الرسم) في ذلك اليوم .. اخترت أنا ومجموعتي – التي بدأت معالمها في التكوين – مكانًا متوسطًا في الصالة واتخذنا مجلسنا متجاورين .. أخرجت أسماء سيد جهاز الووكمان الصغير من حقيبتها وشرعت في تشغيله.

تحت الضلة .. اسم الله ما شا الله
صحبة وشلة .. وردة وفلة .. أحباب والله وشوفنا ليالي
يااااااااااا ليالي .. تعااااااااااالي تعالي

كان هشام عباس قد أصدر أحدث ألبوماته آنذاك (حبتها)، وكنت أسمع الألبوم للمرة الأولى .. لذا لا يزال مرتبطًا في ذاكرتي بذلك اليوم وتفاصيله التي لم أنسها.
لا يملك هشام عباس كاريزما عمرو دياب أو وسامته، ولا يملك عمق صوت محمد منير، ولا يملك شعرًا ناعمًا مُرسلاً كوائل كافوري، ولا يملك عيونًا زرقاءً كمصطفى قمر .. لكنه يملك قلب طفلٍ ينعكس على ملامحه وحركاته وطريقة كلامه، ويملك روحًا مرحةً تشع بهجةً ليخرج صوته وأغانيه ملأى بالفرحة فتنتقل عدوى السعادة منه لكل من يستمع إليه على الفور.

ساعة لقلبك يا جميل .. اتهنى وحب ميل
إعشق إضحك للدنيا .. عمرك تلقاه حاجة تانية
عمره ما هينقص ثانية .. لو تسهر طول الليل

ثبتنا اللوحات البيضاء الكانسون، وقمنا برش بودرة (التلك) حتى لا تتسخ اللوحة أثناء الرسم .. بدأنا في تخطيط اللوحة باستخدام المسطرة حرف (T) مقاس 120 سم والمثلث الأرسطو صديق المعماري.

عشان خاطرك أنا حبيت .. غناوي الحب من تاني
عشان خاطرك أنا غنيت .. بفرحة وسط أحزاني
عشان قلبك خفيف الروح .. يلازمني منين ما بروح
يداوي قلبي أنا المجروح .. بِحُبِك .. بِحُبِك يملا وجداني

أخرجنا شفافاتنا التي قمنا بتجهيزها في البيت وبدأنا في التبييض .. كان أحمد يوسف أكثرنا تميزًا في هذا اليوم .. فقد راح يرسم لوحته بإتقانٍ واضحٍ وأداءٍ متميزٍ .. وكان الوحيد بيننا الذي رسم (أيزوميترك) كاملاً للبوابة، ما جعله محط إعجاب جميع زملائنا ممن نعرفهم ومن لا نعرفهم .. كان كل من يمر بجواره يتوقف للحظاتٍ ليثني على لوحته ويلقي إليه بكلمات الإعجاب والإطراء.

وأنا وأنا وأنا وأناااااااا .. وأنا أعمل إييييييييييه؟
وأنا وأنا وأنا وأنااااااااا .. وبإيدي إيييييييييه؟

****************************

كنا نرى أحمد في ذلك اليوم عبقريًا قد هبط من كوكبٍ آخرٍ في وسط مجموعةٍ من الهواة أمثالنا .. لم يكن يساورنا أدنى شك في أن أحمد سيحصل على أعلى درجة في هذا الاسكتش، ليس على مستوى شلتنا فحسب، بل على مستوى الدفعة كلها .. رحت أؤكد له ذلك أثناء انتظارنا للأوتوبيس بالمحطة أمام الكلية بعد انتهاء اليوم، وقلت له – من كل قلبي – أنه يستحق ذلك عن جدارةٍ واستحقاقٍ.
فجأة وبدون سابق إنذارٍ لم أجد أحمد بجواري، فقد جرى في لمح البصر بأقصى سرعته ليلحق بأتوبيس (12) الذي دخل المحطة ورحل دون أن يتوقف كأي أتوبيسٍ يحترم نفسه، ما اضطر أحمد أن يبذل مجهودًا خارقًا ليلحق به .. وبعد محاولةٍ مستميتةٍ استطاع أحمد أن يضع قدمًا على درجة الباب الخلفي للأتوبيس، لكن يده بدلاً من أن تمسك في القائم الحديدي أمسكت الهواء، ما جعله يفقد توازنه ويقع على قارعة الطريق متدحرجًا بعنفٍ.
هرولتُ باتجاهه على الفور لأطمئن عليه .. كان قد نهض وهو ينفض ملابسه .. كانت الخسائر تنحصر في جرحٍ في وجهه وآخر في ذراعه وثالث في ساقه، بالإضافة إلى كسر المسطرة الـ (T) وتلف "رول اللوحات" الذي كان يحمله على ظهره وتلف الشفافات التي كانت بداخله والتي تخص اسكتش المشروع.
في اليوم التالي قَدِمَ أحمد وهو يضع لاصقًا طبيًا على جرح وجهه وجرح ذراعه .. لكن الجرح الأكبر كان عندما استلمنا درجات الاسكتش الذي قدمناه بالأمس .. حصل أحمد على (B-) وبجوارها كلمة (مجهود طيب) بخطٍ أحمرٍ كبيرٍ!!.. كانت درجته أقل من درجات شلتنا جميعًا .. أصابتنا الصدمة والذهول تمامًا كما أصابته .. صرخ أحمد فجأةً بأعلى صوته: "لأ حراااااااااااااااام" وهرول من أمامنا حتى اختفى عن الأنظار .. لا بد أنه كان يلعن تلك اللحظة التي تعرف فيها على هذه الشلة "النحس" .. في الحقيقة لا أستطيع أن ألوم عليه في ذلك.

****************************

في ليلة تسليم المشروع، كانت مجموعة د. بهاء بكري تجلس في صالة عمارة ليضع كل طالبٍ اللمسات الأخيرة على مشروعه قبل تسليمه صباح اليوم التالي .. كانت شلتنا قد احتلت آخر جزءٍ من صالة الرسم، ورحنا نعمل بتركيزٍ شديدٍ بينما هشام عباس لا يزال يسأل – من خلال جهاز الكاسيت الخاص بأسماء سيد – عن حبيبته التي تركته ورحلت ..

فييين .. فين وفين بتغيب وناسينا
فييين .. فين وفين فاكر أراضينا
فين وفين .. أيامنا معاك
فين وفين .. يا اللي إنت هناك
فين وفين .. نتمنى رضاك
فين وفين .. واجب تراضينا

كان هيثم لطفي قد قام بعمل عزومةٍ لنا عبارة عن أكلة كفتة وموز ردًا لمساعدتنا له قبل تسليم مشروعه مع مجموعة د. علي بسيوني في الأسبوع السابق .. استكملنا العمل في المشروع بعد الانتهاء من هذه الوجبة، ولكن يبدو أن الموز كان به شيءٌ غير طبيعي أصابنا بحالة من "التهييس" الجماعي.

بيَّاع الهوى .. خدَّك تفاح
وأنا قلبي استوى .. وإزاي أرتاح
في عنيك الدوا والهوى جَرَّاح
بيَّاع الهوى .. خدَّك تفااااااح

كان الليل قد انتصف وأرخى سدوله، وحل الهدوء بين زملائنا في أنحاء الصالة من أجل التركيز في إنهاء المشروع، بينما راحت ضحكاتنا تعلو – من أثر الموز – في نهاية الصالة حيث نجلس .. كانت شلة وسيم – رحمه الله – تسهر معنا في هذه الليلة لمساعدتنا، وقبل الفجر كان "التهييس" قد بلغ مداه.
نظر لي أحمد يوسف من فوق شاسيهه وقال لي: "بقول لك إيه يا هيثم .. هو الساعة بقت كام دلوقت؟"
نظرت في ساعتي ثم أجبته: "الساعة أربعة وربع".
فقال لي: "طيب أنا هغفِّل نص ساعة عشان حاسس إني فصلت .. بس إبقى صحيني وحياة والدك".
فرددت: "ماشي يا اسطى".
أحنى أحمد رأسه أمامه وأغمض عينيه وأثنى ذراعيه فوق شاسيهه متخذًا وضع النوم، بينما رحت أنا أستكمل العمل في مشروعي .. كنت متأخرًا كعادتي - التي لم تنقطع حتى أنهيت الدراسة - فلم أجرؤ أن أنام مثلما فعل أحمد .. بعد عدة ثوانٍ، رفع أحمد رأسه وتحفزت حواسه فجأة وهو يسألني: "هو أنا قلت لك (يا إسلام) ولا (يا هيثم)؟!".
أجبته في خمول: "قلت لي (يا هيثم)"
فسألني في اندهاش: "طيب وإنت ما علقتش ليه؟"
أجبته وأنا أقاوم رغبةٍ قويةٍ في النوم: "بصراحة كسِّلت .. هو أنا لسة هقول لك إن أنا إسلام مش هيثم .. يا عم كبر مخك".

الله يسلِّم حالك .. الله يديمك طيب
يا اللي الشوق مرسالك .. والله الفرْح قريِّب 
غالي سلامك .. عالي مقامك
طال العمر كتير في وصالك .. الله يسلِّم حالك

مع دخول أول ضوء للنهار من خلال نوافذ الصالة، كانت أغلبية الدفعة قد غطت في نومٍ عميقٍ، كلٌ في مكانه .. بينما كنت لا أزال متيقظًا وإن كنت قد بدأت أرى الصورة أمامي مهتزة .. فجأة استيقظ زميلنا أحمد رياض من نومه وهو يقول: "مين اللي خد الفيل م البلان؟" .. كان زميلنا أحمد شفيق يجلس بالقرب منه، فأجابه بتلقائية: "اللي خد منك الفيل يا أحمد قادر يرجَّعه .. كمِّل نوم يا حبيبي".
في الحقيقة لا أتذكر جيدًا هل أكل أحمد رياض وأحمد شفيق معنا من الموز أم لا .. أحيانًا تخونني ذاكرتي.

****************************

قبيل الظهيرة كنا قد سلَّمنا مشاريعنا ووقفنا خارج الصالة ننتظر انتهاء الدكاترة من تصحيحها تمهيدًا لإعلان النتيجة.
كانت درجات اسكتشاتي جيدة، ما جعلني مطمئنًا من حصولي على درجةٍ عاليةٍ .. رحت أعد الدقائق حتى انتهى التصحيح وخرج الدكاترة من الصالة، فدخلنا في لهفةٍ على الفور لنتعرف على النتائج.
وقفْتُ أمام مشروعي محملقًا وقد أصابتني الصدمة بعدما رأيت درجتي .. كانت مكتوبةً بالقلم الرصاص بخطٍ كبيرٍ داخل دائرة .. 52 من 100 .. لم أشعر بنفسي وأنا أهرول خارجًا من الصالة كالمجذوب وأنا أصرخ قائلاً: "لأ حراااااااااااااام" .. أين رأيت هذا المشهد من قبل؟ .. كما أخبرتكم من قبل: أحيانًا تخونني ذاكرتي.

السبت، 23 يناير 2016

كتاب (عبقرية عمر) - عباس محمود العقاد

بصراحة الكتاب ما ينفعش يتناقش .. وتقريبا دا الكتاب الوحيد اللي قرأته وما عملتلوش ريفيو.
ممكن أقول إن الكتاب في أول 50 صفحة كنت حاسس إن لغته وأسلوبه صعب جدا ومش مستساغ ودا خلاني أخدت وقت كبير في قراءتهم .. لكن بعد كدة بتحسي إنك بدأتي تدخلي في المود وتتأقلمي عليه وبتبقى القراءة أسرع في النصف الثاني من الكتاب.

الأربعاء، 20 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (5) .. وسيم



وقفت أمام قبره لحظة دفنه وأنا أودعه إلى مثواه الأخير .. مذهولاً مصدومًا غير مصدقٍ أنه لم يعد بيننا وأنني لن أراه في حياتي مرةً أخرى .. لن أسمع صوت ضحكاته المرحة .. لن أرى ابتسامته التي لم تفارق وجهه في حياته .. لن نجلس سويًا على المقهى لأهزمه في الطاولة 31 ويهزمني في المحبوسة ثم نظل نتسامر ونتذكر أيام الدراسة ونضحك وقد انفصلنا عن هموم الحياة ونسينا مشاكل العمل التي لا تنتهي.
من بين دموعي التي لم أستطع كبحها أمام قبره، مرَّ أمام عيني شريط الذكريات التي جمعتني بأطيب من عرفت في حياتي .. وسيم.

*************************

عرفته للمرة الأولى في سنة أولى عمارة أثناء تبييض المشروع الأول .. كان أحد أفراد شلة مكونةً من أربعة أشخاص هم: وليد عادل وهيثم حسن ومحمد عيد ووسيم رابعهم .. كانت شلة تتميز بخفة الظل والضحك الذي لا ينقطع بمناسبةٍ أو بدون مناسبة .. كانوا يتمتعون بحس فكاهةٍ يحسدوا عليه وبكاريزما جذابة تجعل كل من يتعرف إليهم للمرة الأولى يشعر وكأنهم أصدقاء منذ سنواتٍ وليس منذ لحظاتٍ .. كان لقاءٌ واحدٌ بيني أنا وأحمد يوسف ومحمد أيمن من ناحية وشلة وسيم الرباعية من ناحية أخرى كفيلاً بأن نكون أصدقاءً منذ النظرة الأولى.
كنت أنا وأحمد يوسف في مجموعة د. بهاء بكري، بينما كان وسيم ومحمد عيد وهيثم ووليد عادل في مجموعة د. علي بسيوني .. لا أتذكر لماذا كان موعد تسليم المشروع لمجموعة د. علي سابقًا بأسبوعٍ كاملٍ لموعد تسليم المشروع لمجموع د. بهاء .. لكنها كانت بالتأكيد فرصةً ممتازةً لتجعلني أنا وأحمد نقضي مع شلة وسيم ليلة تسليم مشروع مجموعة د. علي .. بدأت الليلة بجلسة هزار وضحك كالعادة وانتهت بمساعدتنا لهم في إنهاء مشاريعهم .. فمنهم من احتاج أن نساعده في تهشير الظل، أو في تنقيط الزرع الذي يشل اليد، أو في رسم الأشجار والنخل، أو في كتابتي لعنوان المشروع وعناوينه الفرعية.
كان أحمد يوسف يحضر معه بعض شرائط الكاسيت التي تحتوي على كوكتيلات متنوعة لأكثر من مطرب، وكانت أسماء سيد تحضر الكاسيت، بينما كان دوري مقتصرًا على الاستماع :) .. وضع أحمد أحد شرائطه في الكاسيت فبدأت الأغنية الأولى التي لم أنسها حتى اليوم .. بدأت الأغنية بموسيقى هادئةٍ امتزجت فيها الدفوف النوبية مع العود الشرقي في إيقاعٍ ونغماتٍ ممزوجة بدفءٍ عجيبٍ، ثم انطلق صوت أحمد منيب هادئًا رخيمًا كمركبٍ شراعي يتمايل في مياه نيل أسوان الساحر:

في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى
آه يا حبيب عمري .. وصحبتي وقمري

كانت ليلةً لا تُنسَى وفيها تعرفنا على عضوين جديدين لم نكن نعرفهما من قبل .. هما هيثم لطفي ووليد عباس .. ظللنا جميعًا نضحك طوال الليل ونتبادل النكات والتعليقات الساخرة .. كانت الحياة خاليةً من أية مسئولياتٍ وكانت القلوب خاليةً من أية ضغائن، فكانت الضحكات صافيةً من القلب.

رحلة يا رحلة .. يا صعبة يا سهلة
رحالة خطوتنا .. في دايرة الرحلة

*************************

في الأسبوع الذي يليه تبادلنا الأدوار .. كانت ليلة تسليم مشروعي أنا وأحمد يوسف .. جاءت شلة وسيم الرباعية بالإضافة إلى وليد عباس وهيثم لطفي ومحمد أيمن لمساعدتنا هذه المرة .. وكالعادة كانت شرائط أحمد يوسف الكوكتيلية تسلينا أثناء العمل في المشروع .. مرت عدة أغاني لم أعرها انتباهًا، حتى عاود أحمد منيب الغناء من جديدٍ ليشجينا وهو يُكمل أغنيته:

ليه يا سنين العمر .. ترضي لينا بالمر
دا لولا فينا صبر .. لهان علينا العمر
في دايرة الرحلة .. أيامنا عَ المولى

في هذه الليلة قام هيثم لطفي بعمل عزومة لنا جميعًا عبارة عن أكلة كفتة وكان الحلو موزًا .. استكملنا العمل في المشروع بعد الانتهاء من هذه الوجبة .. بعد منتصف الليل كان جميع زملائنا من طلاب الدفعة يعملون في توترٍ وصمتٍ، بينما هناك في نهاية صالة رسم أولى عمارة عَلَتْ ضحكاتنا مع شلة وسيم أكثر من المعتاد .. كانت أي كلمةٍ عاديةٍ تجعلنا نقع على الأرض من كثرة الضحك .. لم نعلم هل كان السهر و"التطبيق" الذي لم نعتد عليه بعد هو ما كان يضحكنا، أم أن الموز الذي أكلناه من هيثم لطفي كان به شيئًا ما؟ .. هناك أحيانًا أسئلة في هذه الحياة لا نجد لها إجاباتٍ شافيةٍ كما تعلمون.

*************************

بعد هذا المشروع توطدت علاقتنا أكثر بوسيم وشلته .. شاركنا في أكثر من بحث .. خرجنا في زياراتٍ خارجيةٍ كان منها متحف أحمد شوقي ومتحف محمود خليل ورحلة سقارة ونزلة السمان وغيرها من الأماكن .. لكن هناك بحثًا لا ننساه وظللنا نحكيه في كل مرةٍ كنا نتقابل فيها بعد التخرج وحتى قبل وفاة وسيم رحمه الله .. كان بحث مادة الإنسانيات في مارس من عام 2000 .. كنا في نصف العام الدراسي الثاني لسنة ثانية عمارة .. كانت مجموعة البحث لهذه المادة من أكبر المجموعات البحثية التي تكونت خلال سنوات الدراسة في قسم عمارة .. كنا نزيد عن عشرة أفرادٍ .. كنت أنا وأحمد ومحمد أيمن ووليد عباس مع شلة وسيم الرباعية بالإضافة لثلاث زميلاتٍ من البنات .. ظللنا نعمل جميعًا في البحث كل يومٍ في صالة الرسم في الكلية حتى جاءت ليلة تسليم البحث وكنا متأخرين جدًا كالعادة وكان لا بد من "التطبيق" في مكانٍ ما حتى نتمكن من إنهاء البحث وتسليمه في موعده في الصباح .. رحنا نتشاور كثيرًا حتى اتفقنا على أن ترجع البنات إلى بيوتهن ويأتين في الصباح الباكر بينما يتوجه الشباب إلى بيت وسيم في الحلمية حيث تمتلك أسرته بيتًا غير مأهولٍ بجوار بيتهم .. كانت المرة الأولى التي أذهب فيها لبيت وسيم على عكس بقية شلته الذين ذهبوا إليها أكثر من مرةٍ .. ظل وليد عباس طوال الطريق يحكي لي عن العفاريت التي تسكن ذلك البيت الخالي، وعن الفارس الروماني الذي يمر كل ليلةٍ أمام ذلك البيت بعد منتصف الليل وهو يمسك برمحه ويرتدي درعه ويمتطي صهوة جواده، وعن العديد من المواقف التي يشيب لها الولدان شيبًا والتي رآها وليد رأي العين .. تملكني الخوف والهلع قبل أن نصل إلى ذلك البيت الأسطوري المرعب .. كنا كلما اقتربنا من البيت خطوةً أتراجع للوراء خطواتٍ، فيشدني وسيم للأمام وهو يضحك ويلقي باللائمة على وليد عباس لأنه أفشى السر وتسبب في إفزاعي بهذه الصورة المزرية .. ظللنا على هذا الحال حتى وصلنا إلى الشارع المؤدي إلى بيت وسيم فوجدنا في استقبالنا مجموعةً من الكلاب الضالة التي راحت تنبح علينا في حالة هياجٍ دون انقطاعٍ .. تراجعت للوراء مرةً أخرى وأنا أسبهم جميعًا وألعن ذلك اليوم الذي فكرت فيه في الانضمام إلى هذه المجموعة .. راحوا يضحكون بينما راح وسيم يطمئنني بأن هذه الكلاب صديقةً له وتعرفه جيدًا وبالتالي فلن تؤذينا .. لم أصدقه إلا بعدما تقدمنا وسيم واخترق صفوف الكلاب فامتنعت فورًا عن النباح .. تقدمت معهم في حذرٍ وعيني لا تفارق الكلاب التي امتنعت عن النباح لكنها ظلت تنظر لي نظراتٍ تمتلأ بالشر، وكأنها كانت تريد أن تقول لي: "لولا وسيم لاستمتعنا بتقطيعك إربًا بأنيابنا أيها الجبان" .. بعد خطواتٍ قليلةٍ توقف وسيم أمام أحد البيوت وهو يقول: "وصلنا .. حمد الله عَ السلامة" .. تذكرت فجأةً قصص العفاريت التي حكاها لي وليد فعاد الرعب يتملكني مرةً أخرى .. تراجعت للوراء خطوات وقد اتخذت قراري بالفرار حتى ولو تلقفتني الكلاب، فالموت بسبب كلبٍ ضالٍ أهون من الموت بسبب عفريت حائر .. أخبرتهم قبل أن يدخلوا للبيت باعتذاري عن عدم الاستمرار في هذا البحث وأنني سأعود إلى بيتي ولهم حرية إبقاء اسمي على البحث أو شطبه .. حاولوا إقناعي بشتى السبل لكي للعدول عن هذا القرار الأرعن، إلا أنني رفضت وتمسكت برأيي باستماتة حمارٍ حصاوي .. بعدما يأسوا من محاولة إقناعي، نظر أصدقائي السبعة إلى بعضهم البعض نظراتٍ لم أفهم معناها إلا بعدما هجموا عليّ على حين غرةٍ من جميع الاتجاهات وأمسكوا بتلابيبي وهم يجذبونني ناحية باب البيت .. أصابتني حالة هياجٍ هيستيري لم تحدث لي من قبل ولا من بعد وأنا أقاومهم ببسالةٍ منقطعة النظير .. كانت قوة مقاومتي تعادل قوتهم مجتمعين نظرًا لضخ جسمي لكل كمية الأدرينالين الذي يحتويه .. ظللنا عدة دقائق على نفس الوضع، هم يجذبونني ناحية باب البيت وأنا أقاوهم بالرفس والضرب والسب والصراخ الذي شق هدوء الليل، إلى أن خارت قواي وقواهم فراحوا يجرونني جرًا إلى داخل البيت .. ظللت أتلفت حولي كالمجذوب وهم يضحكون عليّ بلا انقطاعٍ .. وبعد أن هدأ رعبي قليلاً وهدأ ضحكهم، بدأنا نشعر بأن هناك رائحةً نتنة تنتشر في الغرفة، فانشغلنا بالبحث عن مصدرها ولكن بلا فائدةٍ .. بعد قليلٍ دخلت علينا والدة وسيم بطبقين ممتلئين بالسندويتشات وراحت تدعو لنا بالتوفيق والنجاح بطيبة أمٍ مصريةٍ أصيلةٍ .. أدركت منذ النظرة الأولى لوالدة وسيم مصدر طيبته وابتسامته الدائمة .. قالت لنا والدته قبل مغادرتها للغرفة: "إيه يا ولاد الريحة الوحشة اللي في الأوضة دي؟!" .. تركتنا بينما رحنا نبحث مرةً أخرى عن مصدر هذه الرائحة التي ازدادت قوتها عن ذي قبل .. قال محمد عيد في اشمئزازٍ: "يا جدعان في ريحة خرا في المكان" .. بعد قليلٍ انحنى محمد عيد ليتفحص بنطاله عندما وجد عليه شيئًا غريبًا ملتصقًا .. تحسس ذلك الشيء اللزج بأصابع يده ثم رفعها إلى أنفه ليشمه، ثم انقبض وجهه فجأةً في تقززٍ ونظر لي نظرةً طويلةً وقد راح السيناريو يتكون في عقله .. تذكر أننا مررنا في البداية على موضع وقوف الكلاب ثم تذكر أنه كان يمسكني من رجلي أثناء مقاومتي لهم قبل دخولنا المنزل .. لم يكن المشهد يحتاج إلى كثيرٍ من الذكاء لتخيله .. قال لي وهو على وشك الإصابة بالإغماء: "آه هوَّ خرا".

*************************

راح شريط الذكريات يمر أمام ناظريّ سريعًا في ومضاتٍ خاطفةٍ وأنا أقف أمام قبر وسيم أثناء دفنه .. تذكرت مواقفي معه في الكلية خلال سنوات الدراسة الأربعة في قسم عمارة .. تذكرت مقابلاتنا في بيت وليد عباس وتسجيلاتنا ببرنامج الجيت أوديو لإهداءاتٍ تذكارية للتاريخ .. تذكرت عملنا معًا في نفس الشركة بعد التخرج .. تذكرت مقابلاتنا على مقهى دوار العمدة، ومقهى صقر قريش مع وائل أخو زوجته، ومقهى عابدين مع شلتنا .. تذكرت كلامنا بالساعات من خلال الماسنجر حينما كنت أعمل بالسعودية بينما كان وسيم يعمل بقطر .. تذكرت إفطارنا معًا كل رمضان .. تذكرت زياراتنا المتكررة لبيت والديه قبل زواجه .. تذكرت زيارتي أنا ووليد عباس له يوم أحداث 11 سبتمبر 2001، قضينا اليوم من أوله معه في بيته وكنا نستمع لألبوم (سيدي وصالك) من الشريط الذي اشتراه وسيم في نفس يوم صدوره بالأسواق وبينما كنا ننقل الشريط من الكاسيت إلى الكمبيوتر دخلت والدته علينا الغرفة فجأةً وهي تصرخ قائلةً: "أمريكا بتتضرب يا ولاد" .. تذكرت والده وأخيه وأختيه وجدته الطيبة التي لم أرَ وسيم حزينًا كحزنه عليها يوم وفاتها .. تذكرت مكالماتنا التي كانت لا تقل عن ساعةٍ كاملةٍ في كل مرةٍ والتي لم تنقطع منذ استقرار وسيم في مصر بعد قدومه من قطر عام 2012 .. تذكرت فرحته بولديه مازن وحازم .. تذكرت يوم كلمته من حوالي أربعة أشهر لأخبره بأنني سأزوره في نهاية الأسبوع لأجده قد ذهب إلى العين السخنة مع أسرته ولن يكون متواجدًا في نهاية الأسبوع .. تذكرت مرضه وشكواه المستمرة من ألم ظهره الذي ظل يعاني منه كثيرًا في سنواته الأخيرة .. تذكرت ابتسامته التي لا تفارق مخيلتي منذ عرفت بالأمس خبر وفاته عن طريق الفيس بوك وخفت بعدها أن أكلمه على هاتفه غير مصدقٍ للخبر الذي كتبه أحد أصدقائه في العمل .. تذكرت وقوفي أنا وأحمد يوسف ووليد عباس ومحمد أيمن ليلة وفاته أمام المغسلة بمستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر ونحن في حالة ذهولٍ .. تذكرت جنازته هذا الصباح والتي حضرها مئات الأشخاص وهم يبكونه في صدقٍ غير مصدقين مثلي أنه قد توفي .. تذكرت جسده المسجى في نعشه وأنا ألقي عليه النظرة الأخيرة .. انهارت دموعي أنهارًا وأنا أتذكر أحمد منيب وهو يشدو في حزنٍ وأسى:

في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى
آه يا حبيب عمري .. وصحبتي وقمري
عيون مرة تبعد .. خطاوي مرة تعند
حنين جوانا يحكي .. وشوق جوانا يبكي
والدمع ساقية كبت
في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى

الاثنين، 18 يناير 2016

كتاب (إذاعة الأغاني) - عمر طاهر



الكتاب فكرته جميلة جدا وخطرت على بالي زمان بس أنا كسلت أطبقها .. فاتكتبت خلاص لعمر حلال عليه :) .
في واحد صاحبي قال حكمة عجبتني .. قال لي ما فيش حاجة اسمها شخص مبدع وآخر غير مبدع ، لكن في شخص نفذ الفكرة أول ما فكر فيها وشخص آخر كسل ينفذها.فكرة كويسة إنك تسمع الأغنية الخاصة بكل قصة وانت بتقراها .. مع أول أغنية في الكتاب بتاعت فاكراك لنجاة علي لقيتني مش عارفها فشغلتها من يوتيوب أثناء القراءة وهكذا مع كل أغنية .. ما اعتقدش إن سماع الأغنية أثناء قراءة القصة ممكن يخلي الإحساس مختلف لأن الوحيد اللي هيحس القصة ويربطها بالأغنية هو عمر طاهر اللي عاشها فعلا .. ودا اللي خلى أكتر الآراء اللي قيمت الكتاب قالوا إن الكتاب تجربة شخصية جدا ومرتبطة بصاحبها فقط .. يعني أنا مثلا لما أسمع أغنية قال جاني بعد يومين مش هترتبط معايا بالموقف اللي حكاه عمر في الكتاب لما البواب كان هيلبسه قضية تحرش :) .
عجبني جدا في الكتاب حواره مع العربية .. قمة الإبداع والاستمتاع.
عجبني كمان قصة أغنية الكون كله بيدور لمحمد منير لأني أصلا بحبها جدا وبحب ألبوم شبابيك كله، فده كان كفيل إنه يهيأني إني أحب القصة من قبل ما أقرأها .

تحياتي للمبدع دائمًا عمر طاهر :) .

حكايتي مع عمارة (4) .. أول مشروع في عمارة

الزمان: أواخر سبتمبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

كان جدول النصف الأول من العام يحتوي على سبع موادٍ دراسية، وهي: التصميم المعماري – إنشاء المباني – تاريخ العمارة – الظل والمنظور – التدريب البصري – المساحة – نظرية الإنشاءات.
لم تكن البداية هادئة على الإطلاق، فقد كان الأسبوع الأول مليئًا بالمحاضرات والتدريبات .. طُلِبَ منّا في أول محاضرة لمادة التصميم المعماري أن يقوم كل طالبٍ بعمل رفعٍ لغرفة نومه .. يومها وفور دخولي لمنزلي وقبل أن أقوم بتغيير ملابسي أو أتناول طعام الغداء، توجهت إلى (درج العِدَّة) الذي يحتفظ فيه أبي بكل أنواع العِدَد التي يمكن أن تخطر – أو لا تخطر – على بال أحدٍ .. أخذت شريط القياس (المتر) وأسرعت إلى غرفتي وأغلقتها على نفسي وبدأت في قياس أبعاد الغرفة وأوَقِّعها على ورقة بيضاء .. فتحت والدتي باب الغرفة فجأة لتجدني أقف فوق سريري وأنا مادًّا شريط القياس إلى الحائط المقابل .. صاحت في جزع: "مش قلت لك قبل كدة ميت مرة ما تقفش على السرير برجليك؟ .. وإيه اللي بتعمله ده؟ .. عوّض عليّا عوض الصابرين يا رب .. إنزل يا ابني الله يهديك وغيّر هدومك عشان حضرت لك الغدا".

أجزم أن أمي هي أطيب وأنقى مخلوقٍ خلقه الله على وجه الأرض .. كم عانت أشد المعاناة كي تربيني أنا وإخوتي الخمسة تربيةً صالحةً .. تحمّلت الكثير جدًا وجاهدت الصعاب كي تجعل مني هذا الإنسان الذي أكونه الآن .. لا أذكر أنها تأففت في أي مرةٍ طلبت منها أي طلبٍ مهما كان مرهِقًا لها تنفيذه ومهما كان تنفيذه .. ما أكثر المرات التي عدت فيها إلى البيت بعد منتصف الليل لأجدها ساهرةً وحيدةً في انتظاري كي تُعِد لي الطعام .. دائمًا ما كانت تحجز لي (منابي) من الطعام الذي فاتني معها وأنا خارج البيت .. لم أرها في أي لحظةٍ إلا وهي مبتسمة في وجهي رغم ما بها من آلام المرض .. صحيحٌ أنها لا تجيد التعبير عن حبها لي ولإخوتي بالكلمات، إلا أنه يكفيني أن أرى انعكاس حبها لنا في بريق عينيها عندما ترانا سعداء .. كم أحبك يا أمي وأتمنى أن يكون الله قد عوّض صبرك في تربيتنا خيرًا.

****************************

قبل محاضرة التصميم التالية، طلبوا منّا التوجه إلى مكتبة القسم بالدور الخامس كي ننسخ تفاصيل أول مشروعٍ في تاريخنا الدراسي .. كان مشروع (مدخل حديقة عامة) .. تم تقسيم الدفعة لمجموعتين متساويتين، المجموعة الأولى تحت إشراف د. بهاء بكري والمجموعة الثانية تحت إشراف د. علي بسيوني .. كنت أنا ضمن مجموعة د. بهاء بكري.
وعندما حان موعد المحاضرة، دخل علينا لأول مرة د. بهاء بكري في خطواتٍ بطيئةٍ وهو يتوكأ على عصاه .. كان يرتدي قبعةً تشبه قبعة الصيادين فوق رأسه الأصلع وتُظْهِر بعض الشعر الأبيض على جانبي رأسه، كانت له لحيةٌ بيضاءٌ على شكل (سكسوكة)، وتتدلى على صدره نظارةٌ طبيةٌ مربوطة بدلايةٍ حول عنقه .. كانت محاضرةً تحضيرية لمشروع مدخل الحديقة، شرح لنا فيها كيف أن المعماري لا يكون معماريًا متميزًا إذا لم يكن يحمل معه دائمًا في حقيبته أينما ذهب مفكرةً وقلمًا رصاص .. وذكر لنا أنه لا بد أن يكون المعماري ذا عينٍ ثاقبةٍ تلتقط التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه لها الإنسان العادي ويرسمها بقلمه في مفكرته .. وأكد على أنه لا بد أن يكون المعماري صاحب شخصيةٍ مختلفةٍ عن الآخرين ويجب عليه ألا "يهوبص والسلام" – هكذا قال .. سرت همهمات في المدرج فور نطقه لهذه الكلمة الغريبة .. يهوبص؟!! .. "يعني إيه يهوبص يا دكتور؟!" .. قالها أحد زملائنا بعد أن استجمع شجاعته .. نظر إليه د. بهاء نظرة من يريد أن يقول: (إزاي في حد ما يعرفش يعني إيه يهوبص؟ .. هو أنا دايمًا ربنا واعدني كدة بالأغبياء في كل حتة بروحها؟!) .. لكنه بدلاً من ذلك صمت هنيهةً ثم قال موضحًا: "المهابصة هي إنك تعمل أي عمل في حياتك بدون فكر يحكمك .. يعني تشتغل بعشوائية فكرية .. لازم يكون في كونسبت concept لأي حاجة بيعملها المعماري وإلا يبقى بيهوبص .. فهمتوا؟!".

****************************

كان الدكتور بهاء بكري صاحب شخصيةٍ غريبة الأطوار .. منذ محاضرته الأولى أدركنا أننا أمام رجلٍ غير تقليدي له فكرٌ مختلفٌ ومستقلٌ عن بقية الدكاترة الذين رأيناهم أو درَّسوا لنا من قبل .. كان يرى أن 90% من المصريين هم مجموعة من الكائنات المتطفلة على الجنس البشري والذين لا يعلمون لماذا أُوجِدوا في هذه الدنيا .. يرى أنهم عالةٌ على كوكب الأرض وأنه لا بد من قنبلةٍ أيونيةٍ أو معجزةٍ ما تهبط على أرض مصر كي يتم تغيير الفكر المنحرف لهذا الشعب .. كانت هذه رؤيته لأغلبية المصريين بوجهٍ عامٍ .. وبالتالي لم تختلف كثيرًا عن نظرته لنا نحن الطلبة الأغبياء الذين أوقعهم حظه العثر في طريق حياته المنظَّمَة المبنية على أسسٍ وقواعدَ راسخةٍ لا تزحزحها مهابصات طالبٍ تافهٍ أو تحكمات روتين إداري عقيم.
كنت لا أحب طريقة تفكيره ونظرته الناقمة ونقده الدائم وعدم رضاه عما يحدث من حوله من الجميع .. بعد وفاته في نوفمبر 2012 بدأت أدرك كم كان د. بهاء بكري محقًا في كثيرٍ من آرائه .. بدأت أتيقن أنه لا أمل في تغير المصريين للأفضل يومًا ما .. هذا شعبٌ يعشق الانجراف بإصرارٍ عجيبٍ إلى الخلف .. أشعر أننا أصبحنا نعيش في ثقبٍ زمني يبعد مئات السنوات الضوئية عن بقية شعوب الأرض .. تزداد الهوة الزمنية والأخلاقية اتساعًا بمرور السنوات بيننا وبين الآخرين، بينما نحن لا نزال نتفاخر بمجدٍ زائلٍ وأننا أبناء حضارة سبعة آلاف عام وأننا أحفاد بناة الأهرام!! .. أعتقد أنني مدينٌ باعتذارٍ للدكتور بهاء بكري .. لقد كان مصيبًا بكل أسف.

****************************

كان أول رد فعلٍ لي بعد هذه المحاضرة هو أن اشتريت مفكرةً صغيرةً وقلمًا رصاص، ثم توجهت في اليوم التالي مباشرةً في جولةٍ حرةٍ حول الكلية لكي أرسم في مفكرتي كل ما تلتقطه عيناي من تفاصيل حلياتٍ زخرفيةٍ بالحديد المشغول من بوابات وأسوار الحرم الجامعي – حديقة الأورمان – حديقة الحيوان – كلية الزراعة – كلية الفنون التطبيقية – المدينة الجامعية .. كنت أرغب في التحضير لأول (اسكتش) في مشروع مدخل الحديقة العامة الذي سنبدأه .. كنت كذلك أرغب في أن أتبع تعليمات د. بهاء بكري كي لا أكون "كائنًا مهابصاتيًا" لا يعلم لِمَ يعيش في هذه الحياة .. كنت أرغب في بدايةٍ صحيحةٍ تجعلني أستحق أن أكون "معماريًا متميزًا" وألا "أهوبص والسلام".

الجمعة، 15 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (3) .. أول يوم في عمارة

الزمان: السبت 19 سبتمبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

من بين مئات المحاضرات التي تلقيناها على مدار أربع سنواتٍ هي عمر دراستنا بقسم عمارة، تحتل المحاضرة الأولى موقع الصدارة عندي بين جميع المحاضرات، ولا تزال عالقة في ذاكرتي بكل تفاصيلها وكأنها كانت منذ أيام قلائلٍ ولم يمر عليها أكثر من سبعة عشر عامًا ! .. يومها استقبلنا د. محمد سامح – رئيس القسم آنذاك – بوجهه البشوش وابتسامته العذبة وأسلوبه الساحر .. كانت محاضرة في مادة إنشاء المباني وتحولت مع مرور الدقائق إلى محاضرة تعريفية بالقسم ومواده عامةً، ثم تطرق الحوار إلى مستقبل خريج العمارة وظروف سوق العمل .. من أبرز النقاط التي تحدث فيها أن خريجي عمارة نوعان: مهندس مصمم ومهندس منفذ .. 2% فقط من المهندسين المعماريين يعملون في مجال التصميم، بينما يعمل الـ 98% الباقون في مجال التنفيذ .. ذكر كلامًا عن أنواع الرخام والجرانيت والتفاوت فيما بينها في الألوان والجودة والسعر، وأحدث حالة من الهرج والمرج داخل المدرج حينما ذكر رخام (لحم الهوانم) ذا اللون الوردي، فسمعنا الضحكات الذكورية العالية والشهقات الأنثوية الخجلى .. قال كلامًا عن أن المهندس المعماري يكون في أي مشروعٍ كالمايسترو الذي يقود الأوركسترا .. كان يقصد بالأوركسترا باقي مهندسي المشروع من مدني وكهرباء وميكانيكا .. خرجنا من هذه المحاضرة بانطباعٍ مريحٍ عن القسم .. أعتقد أننا قد خُدِعنا بهذه المحاضرة البراقة خفيفة الظل .. فالقادم لم يكن ورديًا بلون (لحم الهوانم) كما تصورنا !.

***************************

بعد انتهاء محاضرات اليوم الأول، خرجت بصحبة صديقي الجديد/القديم (أحمد يوسف)، وأثناء سيرنا بالممر المفتوح بجوار سلم الدور الأرضي الملاصق لمدرج 3002 المؤدي إلى الجبلاية، قابلنا شخصًا لا أعرفه سلّم علينا بحميميةٍ فظننت أنه صديقٌ لأحمد يوسف، ظل يثرثر معنا قرابة نصف الساعة دون كللٍ أو مللٍ حتى اضطررت إلى الجلوس على أول درجات السلم .. كان قصير القامة مفلطح الأنف أجش الصوت بصورةٍ مبالغٍ فيها وكأنه يستخدم مؤثراتٍ صوتية تغير من صوته الأصلي .. عرفت من حديثه أنه معنا في قسم عمارة بالسنة الأولى أيضًا وأنه قد فاتته أول محاضرتين، فظل يسألنا عنهما وعما ورد بهما، وراح يكرر بعض الأسئلة التي أجبناه عليها من قبل .. بدأت أشعر بالملل من كثرة أسئلته وتكرارها رغم إجابتنا عليها أكثر من مرةٍ وبنفس الردود دون زيادةٍ أو نقصان، فعرضت عليه أن يقوم بتصوير المحاضرتين اللتين قمت بتسجيلهما في دفتري الجديد حتى أنهي هذه الوقفة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبًا .. رحَّب بالعرض فتوجهنا جميعًا إلى أكشاك التصوير خارج الكلية والتي تقع بالقرب من محطة الركاب على ناصية الطريق الرئيسي خارج الكلية .. قام بتصوير المحاضرتين وظل يتكلم معنا بعدها في أمورٍ أخرى إلى أن اضطررت إلى الاعتذار له بأنني تأخرت ولا بد أن أرحل، فصافحنا وقبَّلنا كأننا أصدقاء قدامى ورحل .. قلت لأحمد: "إسمه إيه صاحبك ده؟ .. إنت تعرفه من إعدادي ولا من قبل كدة؟" .. فرد أحمد مندهشًا: "إيه ده .. أنا كنت لسة هسالك نفس السؤال .. هو مش صاحبك أصلاً؟!!" .. فغرت فمي في ذهولٍ حقيقي .. ساعةٌ من الحديث مع شخصٍ غريبٍ وكلٌ منا – أحمد وأنا – يظن أنه صديقٌ للآخر .. في اليوم التالي بعدما قابلنا هذا الشخص الغريب في المحاضرة الصباحية وبعد المصافحة والتقبيل والأحضان، عرفت أن اسمه (محمد أيمن).

***************************

(محمد أيمن) إنسان ٌطيب القلب .. خدومٌ جدًا .. وفيٌ لأصدقائه .. دائم السؤال عليهم .. لكنني احتجت لسنة كاملة – وربما أكثر – كي أدرك كل هذه الصفات .. للوهلة الأولى يبدو محمد كشخصٍ غريب الأطوار، لكن مع معاشرته والتعامل معه عن قربٍ ستدرك أنه صديقٌ جيد .. لو تخلص من عادته في تكرار نفس السؤال لنفس الأمر لنفس الشخص أكثر من مرة – (التشييك) كما أطلقنا هذه الصفة عليه – ولو تخلص من تردده في اتخاذ أي قرار سيكون هذا أفضل له ولنا بكل تأكيدٍ J .. بعد مرور أكثر من سبعة عشر عامًا على معرفته في الموقف الذي ذكرته لكم، لا يزال (محمد أيمن) أحد أصدقائي المقربين الذين يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة.

***************************

في اليوم الثاني للدراسة، طلبوا منا التوجه إلى صالة الرسم الخاصة بالسنة الأولى بالدور الثالث .. أعطونا ورقةً بها رموزٌ غريبة قالوا أنها ترمز لأبواب وشبابيك ومحاور وأشياء من هذا القبيل .. لم أكن أعرف وقتها أن الباب يُرسم في المسقط الأفقي على شكل ربع دائرة تمسكها عصا مزدوجة الخط .. نظرت إلى هذه الرموز في غباءٍ واضحٍ .. حدثتني نفسي الأمارة بالسوء أنني لا أزال مقيدًا على ذمة قسم اتصالات ولم يتم قبول طلب تحويلي رسميًا لقسم عمارة بعد .. لا بد أنهم لن يحتسبون لي درجات هذا الاختبار، وبالتالي فلا فائدة من الجلوس لساعةٍ كاملةٍ في صالة الرسم أمام هذه الرموز العجيبة التي لا أعرف عنها شيئًا .. أخبرت أصدقائي الجدد بأنني لن أكمل هذا الاختبار، فحاولي إقناعي بأن أحضر وأرسم أي شيءٍ مثلما سيفعلون، فهم كذلك لا يفهمون ماهية هذه الرموز .. لكن نفسي الأمارة بالسوء رفضت بكل عندٍ تلبية محاولاتهم المشكورة .. فيما بعد عرفت أن هذا الاختبار كان من خمس درجاتٍ تضاف ضمن درجات أعمال السنة لمادة إنشاء المباني .. عرفت أيضًا أنهم احتسبوا درجة الاختبار لكل الطلاب بما فيهم من هم مثلي مُعَلَّقُون ولم يلتحقوا رسميًا بقسم عمارة .. بعد أربعة سنواتٍ حينما ظهرت نتيجة البكالوريوس عرفت من رئيس الكنترول أنني كنت في حاجةٍ إلى درجتين ونصف فقط من إجمالي سبعة آلاف وخمسمائة درجة – هي كل درجات السنوات الخمسة التراكمية – كي أنتقل من تقدير عام (جيد) إلى تقدير عام (جيد جدًا) .. على الفور رأيت أمامي نفسي اللوامة وهي تضحك في تشفٍ واضحٍ وهي تذكرني بذلك الاختبار الذي استهنت به في بداية أولى عمارة .. لكن أوان الندم كان قد فات.

الثلاثاء، 12 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (2) .. أول يوم في عمارة

الزمان: السبت 19 سبتمبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

كان يومًا من الأيام القليلة التي ذهبت فيها إلى الكلية وأنا سعيد ومتفائل .. فقد كان أول أيام الدراسة بالسنة الأولى بعدما تخطيت السنة الإعدادية .. كنت متشوقًا لخوض غمار هذه التجربة الغامضة في ذلك القسم الذي عقدت النية على الالتحاق به .. دخلت من بوابة الكلية الرئيسية الضخمة وأنا أحمل حقيبتي الجديدة السوداء .. استقبلني عم عماد بشاربه المميز وابتسامته المعهودة .. "كل سنة وإنت طيب يا باشمهندس .. سنة سعيدة إن شاء الله" .. أجبته بابتسامة مشرقة: "وإنت طيب يا عم عماد يا جميل".
عماد – بالنسبة لي – من أهم علامات كلية الهندسة منذ خطتها قدماي للمرة الأولى عام 1997 وحتى يومنا هذا .. يعرفك ويحفظ ملامحك من النظرة الأولى .. أذكر أنه لم يطلب مني إظهار كارنيه الكلية إلا مرة واحدة فقط في بداية إعدادي، ومن بعدها لم يطلب رؤيته مرة أخرى حتى تخرجت .. ظل يستقبلني طوال سنوات الدراسة الخمسة بابتسامته الجميلة وأدبه الجم .. كثر الكلام حول كونه مخبر أمن الدولة داخل الكلية لكنني لم أهتم بهذا الكلام ما دام يعاملني بأدب واحترام دائم .. لا يزال يذكرني بعد مرور ما يقرب من أربعة عشر عامًا منذ تخرجي .. لا يزال يستقبلني بنفس الابتسامة ونفس الشارب الكث كلما رماني الشوق لزيارة الكلية .. لم تتغير ملامحه كثيرًا إلا من بعض الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو رأسه.
اجتزت البوابة الرئيسية ليستقبلني بعدها ذلك الخازوق المزروع أمام مبنى إدارة الكلية، وهو عبارة عن نموذج مقلد بمهارة لمسلةٍ مصريةٍ قديمة منحوتة من الجرانيت الأحمر .. تذكرت ما قاله لي أحد الطلاب القدامى ذوي الخبرة بأن هذا الخازوق هو خير رمز يعبِّر عما يمر به كل طالب هندسة منذ التحاقه بالكلية وحتى لحظة خروجه من رأسه .. أقصد تخرجه من الكلية.
سرت في جسدي رعشة عندما تذكرت هذا التشبيه ماركة (سليمان الحلبي)، فنفضت هذا الخاطر من رأسي سريعًا ثم انحرفت جهة اليمين قاصدًا أكبر مباني الكلية مساحةً وارتفاعًا .. ذلك المبنى الشاهق ذو السبعة طوابق والذي تشبه واجهاته الأربعة علب الكبريت المتراصة بجوار بعضها في انتظامٍ ممل، ويختلف توجيهه عن بقية مباني الكلية وكأنه هبط من السماء واستقر بهذه الكيفية .. ذلك هو مبنى عمارة.
فيما بعد عرفت أن من صمم هذا المبنى هو الدكتور علي بسيوني رحمه الله، وعرفت أيضًا أن أغلب دكاترة عمارة انتقدوا تصميم المبنى .. أغلبهم لم يعلنوا ذلك صراحةً أمامنا، وقلة منهم انتقدوه علانيةً في محاضراتهم وعلى رأس هؤلاء الدكتور بهاء بكري رحمه الله الذي لا أنسى انتقاده لنظام التهوية بالأسقف، حيث ذكر أن المراوح المدفونة داخل تجاويف ترابيع السقف الـ Filler Slab تسحب الهواء البارد للأعلى وتجعل الهواء الساخن دائمًا بالأسفل يلفح وجوه الجالسين .. ربما من أجل تلك الانتقادات التي طالته نبذ الدكتور علي بسيوني بقية الدكاترة واختار مكتبه في ذلك الركن المجهول بالدور الأول بنفس المبنى .. من وجهة نظري لا اعتقد أن المبنى كان بهذا السوء الذي وصموه به .. ربما لم ينجح د. علي في تصميم واجهاتٍ جميلة للمبنى .. لكنه نجح بامتياز في تصميم فراغات المبنى من الناحية الوظيفية .. أحتفظ بذكريات لا تُنسى في كل شبرٍ وكل ركنٍ من هذا المبنى .. وأدين بالشكر للدكتور علي بسيوني بعد مرور كل هذه السنوات .. هذا المبنى أحبه.
في يوم الدراسة الأول، لم أكن أعرف بعد ذلك العالم الغامض داخل ذلك المبنى .. كان آخر مدى خطته قدماي في هذا المبنى هو مدرج 3002 القابع في دوره الأرضي، وهو أشهر مدرجات الكلية بعد مدرج الساوي المخضرم الكائن خلف مبنى عمارة مباشرة، والذي نال شهرته منذ أن شدا عبد الحليم حافظ داخل جنباته أغنية (وحياة قلبي وأفراحه) لحبيبته نادية لطفي في فيلم (الخطايا) قبل أن يكتشف أن (عماد حمدي) ليس أباه وأن (حسن يوسف) ليس بأخيه.
عبرت مدخل المبنى في خطوات متسارعة وسط زحام الطلاب وأنا أقفز درجات المدخل الكبير كل درجتين في قفزة واحدة كي أحجز مكانًا أمام المصعدين الرئيسيين للمبنى .. توقف بي المصعد في الدور الثالث وخرجت منه متوجهًا جهة اليسار إلى مدرج المحاضرات .. دخلت المدرج خائفًا أترقب .. لا أعرف أحدًا في هذا القسم حتى هذه اللحظة .. اتخذت مجلسي في مكانٍ قصي في طرف المدرج وحيدًا أتلفت حولي متطلعًا في الوجوه التي بدأت تتوافد تباعًا على المدرج لعلي أعثر على أي وجهٍ مألوف .. مرت الدقائق ثقيلة حتى لمحت فجأة وجهًا أعرفه .. وجهًا بدا مألوفًا لي لكنني لم أره منذ أكثر من سنتين، وبالتحديد منذ أغسطس 1996.
رأيته للمرة الأولى عندما كنت في المدرسة الإبراهيمية الثانوية .. كنا ثلاثة طلاب فقط في لجنة امتحان التحسين لمادة الجغرافيا .. نعم الجغرافيا .. كانوا في ذلك الزمن يفرضون على طلاب القسم العلمي بالثانوية العامة أن يختاروا مادة أدبية .. كنت أنا أحد المخابيل الذين اختاروا الجغرافيا .. وكان ثانينا أحمد يوسف.
تعرفت عليه في اللجنة قبل بدء الامتحان وتبادلنا بعض كلمات التعارف ولعنا تلك اللحظة التي فقدنا فيها عقلنا واخترنا تلك المادة اللزجة .. وبعد انتهاء الامتحان تناقشنا لدقائق معدودة حول أسئلة الامتحان، ثم افترقنا على أملٍ بلقاءٍ قريب.
لم أره منذ ذلك اليوم إلا في مدرج السنة الأولى في قسم عمارة في أول أيام الدراسة .. تلاقت أعيننا فعرفني هو الآخر .. جاء متقدمًا نحوي فصافحته قائلاً: "مش إنت؟!" .. فأجاب في وضوح: "وإنت؟!" .. تعانقنا في فرحٍ .. سألته مندهشًا: "إزاي ما شفتكش طول سنة تالتة ثانوي؟! وإزاي ما شفتكش طول إعدادي هندسة؟! المفروض إنك كنت معايا في مجموعة (أ) في إعدادي بس ما شفتكش ولا مرة !!" .. أجابني: "ما كنتش بروح المدرسة أصلا في تالتة ثانوي .. وفي إعدادي هندسة كنت مقضيها في الحرم الجامعي مع أصحاب ليا هناك فكنت مكبر دماغي من حضور المحاضرات".
أدركت منذ أن تلاقت أعيننا في ذلك اليوم في مدرج السنة الأولى أن أحمد يوسف سيكون صديق عمري وتؤام روحي .. وقد كان .. لا يزال أحمد من أقرب الأصدقاء لي حتى يومنا هذا .. نتقابل بانتظام .. نجلس على مقهى (دوار العمدة) نتذكر تلك الأيام الجميلة ونحن نلعب (الطاولة) حتى مطلع الفجر.
لم يكن موعد المحاضرة الأولى قد حان بعد .. فجلست أثرثر مع أحمد وعيناي على باب المدرج أراقب دخول الطلاب لعلي أرى أي شخص من الذين كنت أعرفهم في إعدادي .. وفجأة لمحت وجهًا أعرفه بين وجوه الداخلين .. بل وجهان .. كانتا زميلتين من (شلة إعدادي الفاقدة) وكانتا معي في نفس الـ section .. لم أكن أعرف أنهما قد اختارتا قسم عمارة نظرًا لعدم تقابلنا منذ انتهاء امتحانات إعدادي .. أشرت لهما من مكاني فتهلل وجهيهما وأتيتا نحوي .. سلمت عليهما في سعادة وقمت بتعريفهما لصديقي الجديد وبالمثل عرفته عليهما .. وجلسنا نتحدث جميعًا حول اختيارنا لهذا القسم وماذا ينتظرنا من مواد جديدة وعالم جديد يفتح ذراعيه لنا .. فجأة دخل المدرج رجل وسيم أنيق يبدو في أواخر الخمسينات من عمره .. صعد درجتين صغيرتين إلى طاولة المحاضرة أمام السبورة الكبيرة، ووقف مبتسمًا لنا حتى صمت الجميع .. فقال في هدوء: "مرحبًا بكم في قسم عمارة وأتمنى لكم النجاح والتوفيق .. إسمي د. محمد سامح .. رئيس القسم وهدرس لكم مادة إنشاء المباني Building Construction إن شاء الله" .. ثم استدار ناحية السبورة وكتب في المنتصف: "بسم الله الرحمن الرحيم".

الاثنين، 11 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (1) .. أول الحدوتة

الزمان: أوائل سبتمبر 1998
المكان: ساحة الجبلاية بالكلية

توجهت في صباح ذلك اليوم الحار إلى الكلية كي أملأ استمارة رغبات الأقسام بعد انتهاء أصعب سنة دراسية في تاريخ أي طالب هندسة .. إعدادي هندسة .. بعبع كل طلاب هندسة الجدد في كل الأزمان والعصور .. تلك السنة التي تنكسر فيها "نِفس" كل من يظن نفسه عبقري زمانه، فبعد المجموع الأسطوري الذي يحصل عليه الطالب في الثانوية العامة، تبدأ مرحلة جديدة مختلفة من تكسير العظام من أول يوم في إعدادي هندسة حيث تجد نفسك كالريشة البائسة في مهب ريح الرياضيات والفيزياء والميكانيكا الذين لا يمتُّون بأدنى صلة لما درسته في الثانوية .. يمكنك أن تدرك الفارق بين المرحلتين عندما تعرف كم كنت حزينًا ومكتئبًا عندما فقدت نصف درجة في مادة الرياضيات في الثانوية العامة، بينما كنت في قمة سعادتي وسجدت سجدة شكر لله عندما حصلت على تقدير "مقبول" في نفس المادة في إعدادي هندسة.
أكرمني الله من وسعٍ وحصلت على تقدير عام "جيد" في السنة الإعدادية، وهو أمر كان يستحق حسد الكثيرين من أصدقائي وقتها .. كنت منتشيًا بهذا النجاح وأنا متوجه في ذلك اليوم للكلية كي أسجل رغبتي للقسم الذي سيحدد مسار حياتي بعد التخرج .. وقبل أن أبدأ في الكتابة توقف القلم في يدي وهو في طريقه إلى استمارة الرغبات ..

وصُّوا الأياااام عليّا .. الأيااااام عليّا .. ما تزوّدش الجراح

صدح فجأة ذلك الصوت الحزين للمطرب محمد محيي من جهاز الووكمان الصغير الخاص بأحد الطلبة الجالسين بالقرب مني على إحدى درجات الجبلاية، ما جعلني أتوجه بكل حواسي إلى مصدر الصوت .. علمت فيما بعد أن محيي قد صدر له مؤخرًا ألبوم غنائي جديد بعنوان (شارع الهوى)، وكان من ضمن أغنياته تلك الأغنية .. وصُّوا الأيام.

كان صوت محمد محيي دائمًا ما يسحرني ويجذبني للاستماع له .. صحيحٌ أنه "أخنف" كما كان يقول والدي دائمًا عنه .. صحيحٌ أن نَفَسَه قصير .. صحيحٌ أنه لا ينطق حرفي السين والصاد كما يجب أن يُنطقا .. صحيحٌ أن صوته ليس جميلاً كصوت عبد الحليم، وليس عذبًا كصوت عمر فتحي، وليس عميقًا كصوت عبد الوهاب .. إلا أن أهم ما يميز صوته هو إحساسه الصادق ومسحة الحزن التي تصطبغ بها أغلب أغانيه .. تشعر أنه يحمل همًّا ثقيلاً ينفث عنه بالغناء فيصلك إحساسه صادقًا ليمس شغاف روحك.

وقولولها أنا قلبي دايب .. من شوقه للحبايب
يا ترجَّع اللي غااايب .. يا تعوَّضني اللي راااح

فيما بعد قال لي أصدقاء دراستي أن ملامحي تشبه محمد محيي إلى حدٍ كبير .. ربما كان ذلك سببًا آخر لشعوري الدائم بالانجذاب نحو صوته ونحو أغانيه الكئيبة.
كنت أمُرُّ في تلك الفترة بتجربة حبٍ من طرفٍ واحدٍ .. تلك التجربة المقيتة التي لا بد أن يمر بها كل شاب في الثامنة عشرة من عمره بكل مراحلها حتى يكتشف في النهاية كم كان ساذجًا وكم من وقتٍ ثمينٍ أضاعه بلا فائدة من أجل لا شيء! .. يمكنك أن تضيف تلك التجربة البائسة اليائسة إلى قائمة مسببات عشقي لأغاني وصوت محمد محيي.

لو يرجع اللي راح .. كنا قدرنا نرجَّع .. اللي الشوق ضيعه
دا اللي بتاخده الجراح .. مش ممكن تاني نقدر .. أنا وإنت نرجَّعه

عاودت التركيز مرة أخرى مع استمارة الرغبات، وكتبت الرغبة الأولى بكل ثقةٍ وزهوٍ .. (قسم اتصالات) .. كان قسم اتصالات من الأقسام الجديدة في ذلك الوقت، وكان مبتغى كل متفوق وحلم كل طالب هندسة يرغب في الحصول على وظيفة مضمونة وراتب مميز بعد التخرج.
دخل معي الكلية من أصدقاء المدرسة الثانوية ما يقرب من عشرة أصدقاء .. نجح تسعة منهم بتفوق في إعدادي هندسة وكانت رغبتهم جميعًا أن يلتحقوا بقسم اتصالات .. لم يكن هناك مفرٌ من اختياري لنفس رغبتهم حتى أستكمل معهم مشوار الدراسة الذي بدأناه معًا .. لكن كانت تتصارع بداخلي رغبة أخرى مُلحّة في أن ألتحق بقسم عمارة .. فأنا بالأساس عاشقٌ للرسم منذ صغري وتستهويني دائمًا الخطوط والأبعاد .. وبالتالي فالمنطق يقول بأن قسم عمارة هو الرغبة الأولى التي كان يجب أن أكتبها .. لكن الرغبة في مصاحبة أصدقائي في قسم اتصالات كانت أقوى .. لم أكن أرغب في خوض تجربة دخول قسمٍ لا أعرف فيه أحدًا.

لو كان حكم القدر .. إنك تفضل يا قلبي .. تايه طول السنين
تدَوَّر ع المحبة .. في بلاد فيها الأحبة .. نسيوا الشوق والحنين

بعد أن كتبت الرغبة الأولى (قسم اتصالات)، كتبت الرغبة الثانية (قسم عمارة) ثم (قسم مدني)، ثم كتبت بقية الأقسام دون ترتيب معين وبدون اهتمام .. كتب عقلي الرغبة الأولى وتركت لقلبي اختيار الثانية.
ألقيت نظرة أخيرة على ذلك الزميل الجالس بالقرب مني والذي لا يزال يستمع في حزنٍ حقيقي إلى محيي، ثم انطلقت ومعي ورقة الرغبات لأسلمها في مبنى إعدادي.

حبايبنا قصاد عنينا .. شايفين الجرح فينا .. مش عايزين يرجعوا

كان من يستلم استمارات الرغبات من الطلبة دكتورة كانت تُدَرِّس مادة الرياضيات في إعدادي .. لا أتذكر اسمها بعد مرور كل هذه السنوات .. كل ما أستطيع تذكره أنها كانت ترتدي "البونيه" دائمًا .. كما أتذكر جيدًا ما قالته لي حين نظرت إلى ترتيب رغباتي في الاستمارة: "إنت مجنون؟!! .. في حد يكتب اتصالات رغبة أولى وبعدها عمارة رغبة تانية؟!!".
أجبتها بدهشةٍ أكبر: "إيه المشكلة يا دكتورة مش فاهم؟!!".
قالت كمن توضح كلامها لشخصٍ غبي: "اللي يكتب اتصالات رغبة أولى المفروض يكتب بعدها كهربا .. حاسبات .. طيران .. إنما عمارة ومدني دول ما لهمش دعوة باتصالات".
لم يكن فيلم (بلبل حيران) للفنان أحمد حلمي قد خرج للحياة بعد في ذلك الزمن السحيق – تذكروا أن الأحداث تدور في سنة 1998 بينما فيلم (بلبل حيران) عُرِض سنة 2010 – لكنني متأكد الآن أنه لو كان الفيلم قد أُنتج في ذلك الوقت لكان رد الدكتورة عليّ سيكون: "يا إبني اتصالات دي حمادة .. وعمارة دي حمادة تاني خالص".
بعد هذا الحوار سألتني للمرة الأخيرة كي ترضي ضميرها من تلك الجريمة التي أنا مقبلٌ عليها بسبب حماقتي: "متأكد من ترتيب الرغبات دي ولا تاخد استمارة جديدة وتغيّر الرغبات؟!".
أجبتها دون تردد بلهجة من لا يهتم بتلك التوافه: "متأكد يا دكتورة ومش عايز أغيّرها".
نظرت لي نظرة من ينهي الأمر في يأس وقالت: "كلام نهائي؟"
أجبتها بلهجة من يريد أن يقول (يا صابر الصبر .. ما تخلصينا بقى): "كلام نهائي يا دكتورة".
وقَّعَت على الاستمارة ووضَعَتها في الدرج مع أخواتها وقالت: "مجنون!!" ثم هتفت للتالي في دور تقديم الورقة: "اللي بعده".

**************************

بعدها بأسبوعين تقريبًا ظهرت النتيجة .. لقد تم قبولي في قسم اتصالات .. لم أتلقَ الخبر بفرحٍ .. بدأت أشعر بأنني قد قمت بالاختيار الخطأ .. في النهاية تغلب قلبي على عقلي وفي نفس يوم قبولي في اتصالات تقدمت بطلب تغيير للرغبات من اتصالات إلى عمارة .. شعرت بارتياحٍ نفسي بعد ما قدمت الطلب .. كان موعد بدء الدراسة بعدها بأسبوع .. قررت أن أتعامل منذ هذه اللحظة إلى حين أن تظهر نتيجة الطلب على أنني طالب في قسم عمارة .. وبالفعل داومت على حضور المحاضرات في قسم عمارة منذ اليوم الأول للدراسة رغم أن النتيجة لم تظهر بعد .. ظهرت بعد بدء الدراسة بثلاثة أسابيع كاملة وكانت فرحتي هذه المرة غامرة .. لقد تم قبول طلب تغيير الرغبات وأصبحت رسميًا طالبًا في قسم عمارة.

لازم نرضى بنصيبنا .. ما خلاص الجرح صابنا .. وهنهرب منه فين ؟!