الثلاثاء، 12 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (2) .. أول يوم في عمارة

الزمان: السبت 19 سبتمبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

كان يومًا من الأيام القليلة التي ذهبت فيها إلى الكلية وأنا سعيد ومتفائل .. فقد كان أول أيام الدراسة بالسنة الأولى بعدما تخطيت السنة الإعدادية .. كنت متشوقًا لخوض غمار هذه التجربة الغامضة في ذلك القسم الذي عقدت النية على الالتحاق به .. دخلت من بوابة الكلية الرئيسية الضخمة وأنا أحمل حقيبتي الجديدة السوداء .. استقبلني عم عماد بشاربه المميز وابتسامته المعهودة .. "كل سنة وإنت طيب يا باشمهندس .. سنة سعيدة إن شاء الله" .. أجبته بابتسامة مشرقة: "وإنت طيب يا عم عماد يا جميل".
عماد – بالنسبة لي – من أهم علامات كلية الهندسة منذ خطتها قدماي للمرة الأولى عام 1997 وحتى يومنا هذا .. يعرفك ويحفظ ملامحك من النظرة الأولى .. أذكر أنه لم يطلب مني إظهار كارنيه الكلية إلا مرة واحدة فقط في بداية إعدادي، ومن بعدها لم يطلب رؤيته مرة أخرى حتى تخرجت .. ظل يستقبلني طوال سنوات الدراسة الخمسة بابتسامته الجميلة وأدبه الجم .. كثر الكلام حول كونه مخبر أمن الدولة داخل الكلية لكنني لم أهتم بهذا الكلام ما دام يعاملني بأدب واحترام دائم .. لا يزال يذكرني بعد مرور ما يقرب من أربعة عشر عامًا منذ تخرجي .. لا يزال يستقبلني بنفس الابتسامة ونفس الشارب الكث كلما رماني الشوق لزيارة الكلية .. لم تتغير ملامحه كثيرًا إلا من بعض الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو رأسه.
اجتزت البوابة الرئيسية ليستقبلني بعدها ذلك الخازوق المزروع أمام مبنى إدارة الكلية، وهو عبارة عن نموذج مقلد بمهارة لمسلةٍ مصريةٍ قديمة منحوتة من الجرانيت الأحمر .. تذكرت ما قاله لي أحد الطلاب القدامى ذوي الخبرة بأن هذا الخازوق هو خير رمز يعبِّر عما يمر به كل طالب هندسة منذ التحاقه بالكلية وحتى لحظة خروجه من رأسه .. أقصد تخرجه من الكلية.
سرت في جسدي رعشة عندما تذكرت هذا التشبيه ماركة (سليمان الحلبي)، فنفضت هذا الخاطر من رأسي سريعًا ثم انحرفت جهة اليمين قاصدًا أكبر مباني الكلية مساحةً وارتفاعًا .. ذلك المبنى الشاهق ذو السبعة طوابق والذي تشبه واجهاته الأربعة علب الكبريت المتراصة بجوار بعضها في انتظامٍ ممل، ويختلف توجيهه عن بقية مباني الكلية وكأنه هبط من السماء واستقر بهذه الكيفية .. ذلك هو مبنى عمارة.
فيما بعد عرفت أن من صمم هذا المبنى هو الدكتور علي بسيوني رحمه الله، وعرفت أيضًا أن أغلب دكاترة عمارة انتقدوا تصميم المبنى .. أغلبهم لم يعلنوا ذلك صراحةً أمامنا، وقلة منهم انتقدوه علانيةً في محاضراتهم وعلى رأس هؤلاء الدكتور بهاء بكري رحمه الله الذي لا أنسى انتقاده لنظام التهوية بالأسقف، حيث ذكر أن المراوح المدفونة داخل تجاويف ترابيع السقف الـ Filler Slab تسحب الهواء البارد للأعلى وتجعل الهواء الساخن دائمًا بالأسفل يلفح وجوه الجالسين .. ربما من أجل تلك الانتقادات التي طالته نبذ الدكتور علي بسيوني بقية الدكاترة واختار مكتبه في ذلك الركن المجهول بالدور الأول بنفس المبنى .. من وجهة نظري لا اعتقد أن المبنى كان بهذا السوء الذي وصموه به .. ربما لم ينجح د. علي في تصميم واجهاتٍ جميلة للمبنى .. لكنه نجح بامتياز في تصميم فراغات المبنى من الناحية الوظيفية .. أحتفظ بذكريات لا تُنسى في كل شبرٍ وكل ركنٍ من هذا المبنى .. وأدين بالشكر للدكتور علي بسيوني بعد مرور كل هذه السنوات .. هذا المبنى أحبه.
في يوم الدراسة الأول، لم أكن أعرف بعد ذلك العالم الغامض داخل ذلك المبنى .. كان آخر مدى خطته قدماي في هذا المبنى هو مدرج 3002 القابع في دوره الأرضي، وهو أشهر مدرجات الكلية بعد مدرج الساوي المخضرم الكائن خلف مبنى عمارة مباشرة، والذي نال شهرته منذ أن شدا عبد الحليم حافظ داخل جنباته أغنية (وحياة قلبي وأفراحه) لحبيبته نادية لطفي في فيلم (الخطايا) قبل أن يكتشف أن (عماد حمدي) ليس أباه وأن (حسن يوسف) ليس بأخيه.
عبرت مدخل المبنى في خطوات متسارعة وسط زحام الطلاب وأنا أقفز درجات المدخل الكبير كل درجتين في قفزة واحدة كي أحجز مكانًا أمام المصعدين الرئيسيين للمبنى .. توقف بي المصعد في الدور الثالث وخرجت منه متوجهًا جهة اليسار إلى مدرج المحاضرات .. دخلت المدرج خائفًا أترقب .. لا أعرف أحدًا في هذا القسم حتى هذه اللحظة .. اتخذت مجلسي في مكانٍ قصي في طرف المدرج وحيدًا أتلفت حولي متطلعًا في الوجوه التي بدأت تتوافد تباعًا على المدرج لعلي أعثر على أي وجهٍ مألوف .. مرت الدقائق ثقيلة حتى لمحت فجأة وجهًا أعرفه .. وجهًا بدا مألوفًا لي لكنني لم أره منذ أكثر من سنتين، وبالتحديد منذ أغسطس 1996.
رأيته للمرة الأولى عندما كنت في المدرسة الإبراهيمية الثانوية .. كنا ثلاثة طلاب فقط في لجنة امتحان التحسين لمادة الجغرافيا .. نعم الجغرافيا .. كانوا في ذلك الزمن يفرضون على طلاب القسم العلمي بالثانوية العامة أن يختاروا مادة أدبية .. كنت أنا أحد المخابيل الذين اختاروا الجغرافيا .. وكان ثانينا أحمد يوسف.
تعرفت عليه في اللجنة قبل بدء الامتحان وتبادلنا بعض كلمات التعارف ولعنا تلك اللحظة التي فقدنا فيها عقلنا واخترنا تلك المادة اللزجة .. وبعد انتهاء الامتحان تناقشنا لدقائق معدودة حول أسئلة الامتحان، ثم افترقنا على أملٍ بلقاءٍ قريب.
لم أره منذ ذلك اليوم إلا في مدرج السنة الأولى في قسم عمارة في أول أيام الدراسة .. تلاقت أعيننا فعرفني هو الآخر .. جاء متقدمًا نحوي فصافحته قائلاً: "مش إنت؟!" .. فأجاب في وضوح: "وإنت؟!" .. تعانقنا في فرحٍ .. سألته مندهشًا: "إزاي ما شفتكش طول سنة تالتة ثانوي؟! وإزاي ما شفتكش طول إعدادي هندسة؟! المفروض إنك كنت معايا في مجموعة (أ) في إعدادي بس ما شفتكش ولا مرة !!" .. أجابني: "ما كنتش بروح المدرسة أصلا في تالتة ثانوي .. وفي إعدادي هندسة كنت مقضيها في الحرم الجامعي مع أصحاب ليا هناك فكنت مكبر دماغي من حضور المحاضرات".
أدركت منذ أن تلاقت أعيننا في ذلك اليوم في مدرج السنة الأولى أن أحمد يوسف سيكون صديق عمري وتؤام روحي .. وقد كان .. لا يزال أحمد من أقرب الأصدقاء لي حتى يومنا هذا .. نتقابل بانتظام .. نجلس على مقهى (دوار العمدة) نتذكر تلك الأيام الجميلة ونحن نلعب (الطاولة) حتى مطلع الفجر.
لم يكن موعد المحاضرة الأولى قد حان بعد .. فجلست أثرثر مع أحمد وعيناي على باب المدرج أراقب دخول الطلاب لعلي أرى أي شخص من الذين كنت أعرفهم في إعدادي .. وفجأة لمحت وجهًا أعرفه بين وجوه الداخلين .. بل وجهان .. كانتا زميلتين من (شلة إعدادي الفاقدة) وكانتا معي في نفس الـ section .. لم أكن أعرف أنهما قد اختارتا قسم عمارة نظرًا لعدم تقابلنا منذ انتهاء امتحانات إعدادي .. أشرت لهما من مكاني فتهلل وجهيهما وأتيتا نحوي .. سلمت عليهما في سعادة وقمت بتعريفهما لصديقي الجديد وبالمثل عرفته عليهما .. وجلسنا نتحدث جميعًا حول اختيارنا لهذا القسم وماذا ينتظرنا من مواد جديدة وعالم جديد يفتح ذراعيه لنا .. فجأة دخل المدرج رجل وسيم أنيق يبدو في أواخر الخمسينات من عمره .. صعد درجتين صغيرتين إلى طاولة المحاضرة أمام السبورة الكبيرة، ووقف مبتسمًا لنا حتى صمت الجميع .. فقال في هدوء: "مرحبًا بكم في قسم عمارة وأتمنى لكم النجاح والتوفيق .. إسمي د. محمد سامح .. رئيس القسم وهدرس لكم مادة إنشاء المباني Building Construction إن شاء الله" .. ثم استدار ناحية السبورة وكتب في المنتصف: "بسم الله الرحمن الرحيم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق