الاثنين، 11 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (1) .. أول الحدوتة

الزمان: أوائل سبتمبر 1998
المكان: ساحة الجبلاية بالكلية

توجهت في صباح ذلك اليوم الحار إلى الكلية كي أملأ استمارة رغبات الأقسام بعد انتهاء أصعب سنة دراسية في تاريخ أي طالب هندسة .. إعدادي هندسة .. بعبع كل طلاب هندسة الجدد في كل الأزمان والعصور .. تلك السنة التي تنكسر فيها "نِفس" كل من يظن نفسه عبقري زمانه، فبعد المجموع الأسطوري الذي يحصل عليه الطالب في الثانوية العامة، تبدأ مرحلة جديدة مختلفة من تكسير العظام من أول يوم في إعدادي هندسة حيث تجد نفسك كالريشة البائسة في مهب ريح الرياضيات والفيزياء والميكانيكا الذين لا يمتُّون بأدنى صلة لما درسته في الثانوية .. يمكنك أن تدرك الفارق بين المرحلتين عندما تعرف كم كنت حزينًا ومكتئبًا عندما فقدت نصف درجة في مادة الرياضيات في الثانوية العامة، بينما كنت في قمة سعادتي وسجدت سجدة شكر لله عندما حصلت على تقدير "مقبول" في نفس المادة في إعدادي هندسة.
أكرمني الله من وسعٍ وحصلت على تقدير عام "جيد" في السنة الإعدادية، وهو أمر كان يستحق حسد الكثيرين من أصدقائي وقتها .. كنت منتشيًا بهذا النجاح وأنا متوجه في ذلك اليوم للكلية كي أسجل رغبتي للقسم الذي سيحدد مسار حياتي بعد التخرج .. وقبل أن أبدأ في الكتابة توقف القلم في يدي وهو في طريقه إلى استمارة الرغبات ..

وصُّوا الأياااام عليّا .. الأيااااام عليّا .. ما تزوّدش الجراح

صدح فجأة ذلك الصوت الحزين للمطرب محمد محيي من جهاز الووكمان الصغير الخاص بأحد الطلبة الجالسين بالقرب مني على إحدى درجات الجبلاية، ما جعلني أتوجه بكل حواسي إلى مصدر الصوت .. علمت فيما بعد أن محيي قد صدر له مؤخرًا ألبوم غنائي جديد بعنوان (شارع الهوى)، وكان من ضمن أغنياته تلك الأغنية .. وصُّوا الأيام.

كان صوت محمد محيي دائمًا ما يسحرني ويجذبني للاستماع له .. صحيحٌ أنه "أخنف" كما كان يقول والدي دائمًا عنه .. صحيحٌ أن نَفَسَه قصير .. صحيحٌ أنه لا ينطق حرفي السين والصاد كما يجب أن يُنطقا .. صحيحٌ أن صوته ليس جميلاً كصوت عبد الحليم، وليس عذبًا كصوت عمر فتحي، وليس عميقًا كصوت عبد الوهاب .. إلا أن أهم ما يميز صوته هو إحساسه الصادق ومسحة الحزن التي تصطبغ بها أغلب أغانيه .. تشعر أنه يحمل همًّا ثقيلاً ينفث عنه بالغناء فيصلك إحساسه صادقًا ليمس شغاف روحك.

وقولولها أنا قلبي دايب .. من شوقه للحبايب
يا ترجَّع اللي غااايب .. يا تعوَّضني اللي راااح

فيما بعد قال لي أصدقاء دراستي أن ملامحي تشبه محمد محيي إلى حدٍ كبير .. ربما كان ذلك سببًا آخر لشعوري الدائم بالانجذاب نحو صوته ونحو أغانيه الكئيبة.
كنت أمُرُّ في تلك الفترة بتجربة حبٍ من طرفٍ واحدٍ .. تلك التجربة المقيتة التي لا بد أن يمر بها كل شاب في الثامنة عشرة من عمره بكل مراحلها حتى يكتشف في النهاية كم كان ساذجًا وكم من وقتٍ ثمينٍ أضاعه بلا فائدة من أجل لا شيء! .. يمكنك أن تضيف تلك التجربة البائسة اليائسة إلى قائمة مسببات عشقي لأغاني وصوت محمد محيي.

لو يرجع اللي راح .. كنا قدرنا نرجَّع .. اللي الشوق ضيعه
دا اللي بتاخده الجراح .. مش ممكن تاني نقدر .. أنا وإنت نرجَّعه

عاودت التركيز مرة أخرى مع استمارة الرغبات، وكتبت الرغبة الأولى بكل ثقةٍ وزهوٍ .. (قسم اتصالات) .. كان قسم اتصالات من الأقسام الجديدة في ذلك الوقت، وكان مبتغى كل متفوق وحلم كل طالب هندسة يرغب في الحصول على وظيفة مضمونة وراتب مميز بعد التخرج.
دخل معي الكلية من أصدقاء المدرسة الثانوية ما يقرب من عشرة أصدقاء .. نجح تسعة منهم بتفوق في إعدادي هندسة وكانت رغبتهم جميعًا أن يلتحقوا بقسم اتصالات .. لم يكن هناك مفرٌ من اختياري لنفس رغبتهم حتى أستكمل معهم مشوار الدراسة الذي بدأناه معًا .. لكن كانت تتصارع بداخلي رغبة أخرى مُلحّة في أن ألتحق بقسم عمارة .. فأنا بالأساس عاشقٌ للرسم منذ صغري وتستهويني دائمًا الخطوط والأبعاد .. وبالتالي فالمنطق يقول بأن قسم عمارة هو الرغبة الأولى التي كان يجب أن أكتبها .. لكن الرغبة في مصاحبة أصدقائي في قسم اتصالات كانت أقوى .. لم أكن أرغب في خوض تجربة دخول قسمٍ لا أعرف فيه أحدًا.

لو كان حكم القدر .. إنك تفضل يا قلبي .. تايه طول السنين
تدَوَّر ع المحبة .. في بلاد فيها الأحبة .. نسيوا الشوق والحنين

بعد أن كتبت الرغبة الأولى (قسم اتصالات)، كتبت الرغبة الثانية (قسم عمارة) ثم (قسم مدني)، ثم كتبت بقية الأقسام دون ترتيب معين وبدون اهتمام .. كتب عقلي الرغبة الأولى وتركت لقلبي اختيار الثانية.
ألقيت نظرة أخيرة على ذلك الزميل الجالس بالقرب مني والذي لا يزال يستمع في حزنٍ حقيقي إلى محيي، ثم انطلقت ومعي ورقة الرغبات لأسلمها في مبنى إعدادي.

حبايبنا قصاد عنينا .. شايفين الجرح فينا .. مش عايزين يرجعوا

كان من يستلم استمارات الرغبات من الطلبة دكتورة كانت تُدَرِّس مادة الرياضيات في إعدادي .. لا أتذكر اسمها بعد مرور كل هذه السنوات .. كل ما أستطيع تذكره أنها كانت ترتدي "البونيه" دائمًا .. كما أتذكر جيدًا ما قالته لي حين نظرت إلى ترتيب رغباتي في الاستمارة: "إنت مجنون؟!! .. في حد يكتب اتصالات رغبة أولى وبعدها عمارة رغبة تانية؟!!".
أجبتها بدهشةٍ أكبر: "إيه المشكلة يا دكتورة مش فاهم؟!!".
قالت كمن توضح كلامها لشخصٍ غبي: "اللي يكتب اتصالات رغبة أولى المفروض يكتب بعدها كهربا .. حاسبات .. طيران .. إنما عمارة ومدني دول ما لهمش دعوة باتصالات".
لم يكن فيلم (بلبل حيران) للفنان أحمد حلمي قد خرج للحياة بعد في ذلك الزمن السحيق – تذكروا أن الأحداث تدور في سنة 1998 بينما فيلم (بلبل حيران) عُرِض سنة 2010 – لكنني متأكد الآن أنه لو كان الفيلم قد أُنتج في ذلك الوقت لكان رد الدكتورة عليّ سيكون: "يا إبني اتصالات دي حمادة .. وعمارة دي حمادة تاني خالص".
بعد هذا الحوار سألتني للمرة الأخيرة كي ترضي ضميرها من تلك الجريمة التي أنا مقبلٌ عليها بسبب حماقتي: "متأكد من ترتيب الرغبات دي ولا تاخد استمارة جديدة وتغيّر الرغبات؟!".
أجبتها دون تردد بلهجة من لا يهتم بتلك التوافه: "متأكد يا دكتورة ومش عايز أغيّرها".
نظرت لي نظرة من ينهي الأمر في يأس وقالت: "كلام نهائي؟"
أجبتها بلهجة من يريد أن يقول (يا صابر الصبر .. ما تخلصينا بقى): "كلام نهائي يا دكتورة".
وقَّعَت على الاستمارة ووضَعَتها في الدرج مع أخواتها وقالت: "مجنون!!" ثم هتفت للتالي في دور تقديم الورقة: "اللي بعده".

**************************

بعدها بأسبوعين تقريبًا ظهرت النتيجة .. لقد تم قبولي في قسم اتصالات .. لم أتلقَ الخبر بفرحٍ .. بدأت أشعر بأنني قد قمت بالاختيار الخطأ .. في النهاية تغلب قلبي على عقلي وفي نفس يوم قبولي في اتصالات تقدمت بطلب تغيير للرغبات من اتصالات إلى عمارة .. شعرت بارتياحٍ نفسي بعد ما قدمت الطلب .. كان موعد بدء الدراسة بعدها بأسبوع .. قررت أن أتعامل منذ هذه اللحظة إلى حين أن تظهر نتيجة الطلب على أنني طالب في قسم عمارة .. وبالفعل داومت على حضور المحاضرات في قسم عمارة منذ اليوم الأول للدراسة رغم أن النتيجة لم تظهر بعد .. ظهرت بعد بدء الدراسة بثلاثة أسابيع كاملة وكانت فرحتي هذه المرة غامرة .. لقد تم قبول طلب تغيير الرغبات وأصبحت رسميًا طالبًا في قسم عمارة.

لازم نرضى بنصيبنا .. ما خلاص الجرح صابنا .. وهنهرب منه فين ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق