الاثنين، 18 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (4) .. أول مشروع في عمارة

الزمان: أواخر سبتمبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

كان جدول النصف الأول من العام يحتوي على سبع موادٍ دراسية، وهي: التصميم المعماري – إنشاء المباني – تاريخ العمارة – الظل والمنظور – التدريب البصري – المساحة – نظرية الإنشاءات.
لم تكن البداية هادئة على الإطلاق، فقد كان الأسبوع الأول مليئًا بالمحاضرات والتدريبات .. طُلِبَ منّا في أول محاضرة لمادة التصميم المعماري أن يقوم كل طالبٍ بعمل رفعٍ لغرفة نومه .. يومها وفور دخولي لمنزلي وقبل أن أقوم بتغيير ملابسي أو أتناول طعام الغداء، توجهت إلى (درج العِدَّة) الذي يحتفظ فيه أبي بكل أنواع العِدَد التي يمكن أن تخطر – أو لا تخطر – على بال أحدٍ .. أخذت شريط القياس (المتر) وأسرعت إلى غرفتي وأغلقتها على نفسي وبدأت في قياس أبعاد الغرفة وأوَقِّعها على ورقة بيضاء .. فتحت والدتي باب الغرفة فجأة لتجدني أقف فوق سريري وأنا مادًّا شريط القياس إلى الحائط المقابل .. صاحت في جزع: "مش قلت لك قبل كدة ميت مرة ما تقفش على السرير برجليك؟ .. وإيه اللي بتعمله ده؟ .. عوّض عليّا عوض الصابرين يا رب .. إنزل يا ابني الله يهديك وغيّر هدومك عشان حضرت لك الغدا".

أجزم أن أمي هي أطيب وأنقى مخلوقٍ خلقه الله على وجه الأرض .. كم عانت أشد المعاناة كي تربيني أنا وإخوتي الخمسة تربيةً صالحةً .. تحمّلت الكثير جدًا وجاهدت الصعاب كي تجعل مني هذا الإنسان الذي أكونه الآن .. لا أذكر أنها تأففت في أي مرةٍ طلبت منها أي طلبٍ مهما كان مرهِقًا لها تنفيذه ومهما كان تنفيذه .. ما أكثر المرات التي عدت فيها إلى البيت بعد منتصف الليل لأجدها ساهرةً وحيدةً في انتظاري كي تُعِد لي الطعام .. دائمًا ما كانت تحجز لي (منابي) من الطعام الذي فاتني معها وأنا خارج البيت .. لم أرها في أي لحظةٍ إلا وهي مبتسمة في وجهي رغم ما بها من آلام المرض .. صحيحٌ أنها لا تجيد التعبير عن حبها لي ولإخوتي بالكلمات، إلا أنه يكفيني أن أرى انعكاس حبها لنا في بريق عينيها عندما ترانا سعداء .. كم أحبك يا أمي وأتمنى أن يكون الله قد عوّض صبرك في تربيتنا خيرًا.

****************************

قبل محاضرة التصميم التالية، طلبوا منّا التوجه إلى مكتبة القسم بالدور الخامس كي ننسخ تفاصيل أول مشروعٍ في تاريخنا الدراسي .. كان مشروع (مدخل حديقة عامة) .. تم تقسيم الدفعة لمجموعتين متساويتين، المجموعة الأولى تحت إشراف د. بهاء بكري والمجموعة الثانية تحت إشراف د. علي بسيوني .. كنت أنا ضمن مجموعة د. بهاء بكري.
وعندما حان موعد المحاضرة، دخل علينا لأول مرة د. بهاء بكري في خطواتٍ بطيئةٍ وهو يتوكأ على عصاه .. كان يرتدي قبعةً تشبه قبعة الصيادين فوق رأسه الأصلع وتُظْهِر بعض الشعر الأبيض على جانبي رأسه، كانت له لحيةٌ بيضاءٌ على شكل (سكسوكة)، وتتدلى على صدره نظارةٌ طبيةٌ مربوطة بدلايةٍ حول عنقه .. كانت محاضرةً تحضيرية لمشروع مدخل الحديقة، شرح لنا فيها كيف أن المعماري لا يكون معماريًا متميزًا إذا لم يكن يحمل معه دائمًا في حقيبته أينما ذهب مفكرةً وقلمًا رصاص .. وذكر لنا أنه لا بد أن يكون المعماري ذا عينٍ ثاقبةٍ تلتقط التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه لها الإنسان العادي ويرسمها بقلمه في مفكرته .. وأكد على أنه لا بد أن يكون المعماري صاحب شخصيةٍ مختلفةٍ عن الآخرين ويجب عليه ألا "يهوبص والسلام" – هكذا قال .. سرت همهمات في المدرج فور نطقه لهذه الكلمة الغريبة .. يهوبص؟!! .. "يعني إيه يهوبص يا دكتور؟!" .. قالها أحد زملائنا بعد أن استجمع شجاعته .. نظر إليه د. بهاء نظرة من يريد أن يقول: (إزاي في حد ما يعرفش يعني إيه يهوبص؟ .. هو أنا دايمًا ربنا واعدني كدة بالأغبياء في كل حتة بروحها؟!) .. لكنه بدلاً من ذلك صمت هنيهةً ثم قال موضحًا: "المهابصة هي إنك تعمل أي عمل في حياتك بدون فكر يحكمك .. يعني تشتغل بعشوائية فكرية .. لازم يكون في كونسبت concept لأي حاجة بيعملها المعماري وإلا يبقى بيهوبص .. فهمتوا؟!".

****************************

كان الدكتور بهاء بكري صاحب شخصيةٍ غريبة الأطوار .. منذ محاضرته الأولى أدركنا أننا أمام رجلٍ غير تقليدي له فكرٌ مختلفٌ ومستقلٌ عن بقية الدكاترة الذين رأيناهم أو درَّسوا لنا من قبل .. كان يرى أن 90% من المصريين هم مجموعة من الكائنات المتطفلة على الجنس البشري والذين لا يعلمون لماذا أُوجِدوا في هذه الدنيا .. يرى أنهم عالةٌ على كوكب الأرض وأنه لا بد من قنبلةٍ أيونيةٍ أو معجزةٍ ما تهبط على أرض مصر كي يتم تغيير الفكر المنحرف لهذا الشعب .. كانت هذه رؤيته لأغلبية المصريين بوجهٍ عامٍ .. وبالتالي لم تختلف كثيرًا عن نظرته لنا نحن الطلبة الأغبياء الذين أوقعهم حظه العثر في طريق حياته المنظَّمَة المبنية على أسسٍ وقواعدَ راسخةٍ لا تزحزحها مهابصات طالبٍ تافهٍ أو تحكمات روتين إداري عقيم.
كنت لا أحب طريقة تفكيره ونظرته الناقمة ونقده الدائم وعدم رضاه عما يحدث من حوله من الجميع .. بعد وفاته في نوفمبر 2012 بدأت أدرك كم كان د. بهاء بكري محقًا في كثيرٍ من آرائه .. بدأت أتيقن أنه لا أمل في تغير المصريين للأفضل يومًا ما .. هذا شعبٌ يعشق الانجراف بإصرارٍ عجيبٍ إلى الخلف .. أشعر أننا أصبحنا نعيش في ثقبٍ زمني يبعد مئات السنوات الضوئية عن بقية شعوب الأرض .. تزداد الهوة الزمنية والأخلاقية اتساعًا بمرور السنوات بيننا وبين الآخرين، بينما نحن لا نزال نتفاخر بمجدٍ زائلٍ وأننا أبناء حضارة سبعة آلاف عام وأننا أحفاد بناة الأهرام!! .. أعتقد أنني مدينٌ باعتذارٍ للدكتور بهاء بكري .. لقد كان مصيبًا بكل أسف.

****************************

كان أول رد فعلٍ لي بعد هذه المحاضرة هو أن اشتريت مفكرةً صغيرةً وقلمًا رصاص، ثم توجهت في اليوم التالي مباشرةً في جولةٍ حرةٍ حول الكلية لكي أرسم في مفكرتي كل ما تلتقطه عيناي من تفاصيل حلياتٍ زخرفيةٍ بالحديد المشغول من بوابات وأسوار الحرم الجامعي – حديقة الأورمان – حديقة الحيوان – كلية الزراعة – كلية الفنون التطبيقية – المدينة الجامعية .. كنت أرغب في التحضير لأول (اسكتش) في مشروع مدخل الحديقة العامة الذي سنبدأه .. كنت كذلك أرغب في أن أتبع تعليمات د. بهاء بكري كي لا أكون "كائنًا مهابصاتيًا" لا يعلم لِمَ يعيش في هذه الحياة .. كنت أرغب في بدايةٍ صحيحةٍ تجعلني أستحق أن أكون "معماريًا متميزًا" وألا "أهوبص والسلام".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق