الجمعة، 11 مارس 2016

حكايتي مع الكونسر فتوار ​ (1)



الزمان: سبتمبر 1987 م

كنت في أواخر الإجازة الصيفية قبل بدء العام الدراسي للصف الثاني الابتدائي، ألهو مع أقراني في الشارع أمام منزلنا وقت العصر .. شاهدت أبي في أول الشارع وهو قادمٌ من عمله ويحمل في يديه أكياس الفاكهة، فتركت أصحابي وهرولت نحوه فرِحًا بقدومه .. طلب أبي مني الدخول للمنزل وترك اللعب لاحتياجي في أمرٍ هامٍ .. تذمرت قليلاً كأي طفلٍ برئٍ يتذمر عندما يحلو لأحد والديه أن يفسدا عليه لهوه .. طلبت من أبي أن يمنحني خمس دقائقٍ إضافية – دائمًا كل الأطفال يحتاجون خمس دقائق إضافية - فرفض والدي وأصر أن أتبعه إلى البيت فورًا .. تركت أقراني ومشيت وراءه وأنا أتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ مصحوبةٍ بنشيجٍ متقطعٍ .. توقف أبي ونظر لي نظرةً أوقفت الدماء في عروقي، فالتزمت الصمت كأي طفلٍ مؤدبٍ يحترم نفسه عندما ينظر إليه أبوه تلك النظرة .. كنت أتوقع أن يطلب مني أن أشتري أي طلبٍ لأمي لاستكمال الغداء .. خبزٌ .. كيلو طماطم .. كيس ملح .. حزمة جرجير .. باكو شاي .. أو أي شيءٍ من هذه الطلبات التي لا تظهر إلا وقت اللعب.
انتظرت حتى انتهاء أبي من تغيير ملابسه ودخوله دورة المياه ثم تأدية صلاة العصر .. وفي هذه الأثناء سألت أمي عمّا تحتاج لشرائه، فقالت بأنها لا تحتاج لشيءٍ .. لماذا إذن طلبني أبي وجعلني أترك اللعب ما دامت أمي لا تحتاج لشيءٍ؟!
نادى عليَّ أبي بعدما أنهى صلاة العصر، وسألني سؤالاً غير مُتوقَع:
- "تحب تتعلم موسيقى؟"
- "يعني إيه موسيقى يا بابا؟"
- "تعالى معايا بكرة مشوار وأنا أعرفك إيه هي الموسيقى"
طرت من الفرحة، ليس بسبب أنني سأعرف ما هي الموسيقى، ولكن لأنني سأخرج مع أبي في الغد.


********************

في اليوم التالي، خرجت مع أبي منذ الصباح الباكر .. مررنا أولاً على عمله في جاردن سيتي، ثم توجهنا إلى "المشوار" الذي لم أعرف - حتى لحظتها - إلى أين.
- أحنا رايحين فين يا بابا؟
- رايحين معهد الكونسر فتوار.
- إيه التونسر تتوار ده يا بابا؟!
- هتعرف لما نروح.
وصلنا إلى ذلك المكان المكتوب على بوابته الكبيرة من الخارج (أكاديمية الفنون) .. توجهنا إلى أول مبنى صادفنا على اليمين بعد عبور مدخل البوابة، وكان مكتوب على لوحته الجدارية (المعهد العالي للكونسر فتوار) .. كانت له درجات سلم تمهيدية تسبق مدخله الرئيسي الذي يؤدي إلى بهو داخلي واسع يتفرع منه سلمان عن اليمين وعن الشمال يلتقيان في ممر بالدور الأول، يمكن للواقف فيه أن يرى بهو المدخل الرئيسي للمبنى بالدور الأرضي .. انحرفنا يسارًا فرأينا قاعةً في نهاية الدور الأول مكتوب عليها (قاعة أبو بكر خيرت) .. عرفت فيما بعد أنه مهندس معماري وعازف بيانو من جيل الرواد الأوائل وأول عازفٍ مصري وضع الموسيقى المصرية في قالبٍ سيمفوني، وهو الذي أسس معهد الكونسر فتوار في مصر، وهو عم الفنان العبقري (عمر خيرت) .. وقاموا بتسمية تلك القاعة التي رأيناها على اسمه تخليدًا لذكراه.
استكملنا الصعود على أقدامنا على سلمٍ آخر مجاور لقاعة (أبو بكر خيرت) إلى الطابق الذي يليه، فسمعت أصواتًا عاليةً صادرةً من إحدى الغرف كأنها أصوات آلاتٍ موسيقية لكنها صادرة من حنجرةٍ بشريةٍ .. فيما بعد عرفت أن هذا الطابق خاص بالغناء الأوبرالي، الذي كان من أبرز نجومه في ذلك الوقت الفنانة عفاف راضي والفنانة نيفين علوبة.
سألت أبي عن هذا المكان الغريب، فقال لي بأنني سأقابل شخصًا بعد قليلٍ سيسألني بضعة أسئلةٍ وسنمضي سريعًا .. كان اختبارًا للقدرات .. هكذا فهمت لاحقًا.
دخلت الامتحان - الذي لم أكن مستوعبًا أنه امتحان – وطلب مني الممتحِن أن أستمع إلى النغمة التي سيضربها على البيانو وأن أحاول تقليد نفس النغمة بصوتي .. فعلت ما طلبه مني، فضرب نغمةً مختلفةً فقلدت نفس درجتها، وهكذا تكرر الأمر لأكثر من نغمةٍ أخرى .. لا أتذكر تفاصيل إضافية أكثر من أنه طلب مني في نهاية الامتحان أن يرى أصابع يدي، فمددت له يدي الصغيرة .. تفحصها باهتمام، ثم ابتسم لي ابتسامة ودودة وربت على رأسي، ثم انصرفت مع أبي عائدين للمنزل.

********************


كان أبي قد ألحقني في العام المنصرم بمعهد عمرو بن العاص الابتدائي الأزهري القريب من منزلنا .. حيث كانت المعاهد الأزهرية – ولا تزال – تقبل الالتحاق بها للصف الأول الابتدائي في سنٍ أقل من ست سنواتٍ، على عكس المدارس الأخرى التي تشترط ألا يقل السن عند بداية العام الدراسي عن ست سنواتٍ .. فاتخذها أبي فرصةً كي يوفر لي سنةً – وخيرًا فعل - فالتحقت بذلك المعهد الأزهري وأنا في سن خمس سنواتٍ وثمانية أشهرٍ.
بعد أيامٍ قليلةٍ من زيارتنا لمعهد الكونسر فتوار، أخبرني أبي بأنني قد نجحت في اختبار القدرات وتم قبولي في المعهد وتم ترشيحي لتعلم آلة البيانو .. وخيّرني إن كنت أود الاستمرار في المعهد الأزهري أم أنتقل إلى معهد الكونسر فتوار.
أشهد لأبي أنه عوّدني منذ صغري على اختيار قراراتي بنفسي دون إجبارٍ منه، وكان يوضح لي الفارق بين الاختيارات بكل صدقٍ وحياديةٍ ثم يترك لي حرية اختيار القرار .. وكان ينبهني إلى عواقب اختياري إن شعر أنه اختيارٌ خاطئ .. لذلك فأنا أدين له بالفضل في زرع الإحساس بمسئولية القرار داخلي منذ الصغر، وتنشئتي على التحليل المنطقي لأية مشكلةٍ قد تواجهني والتمييز بين البدائل المتاحة لاختيار أفضلها.
وعندما خيّرني أبي بين الاستمرار في المعهد الأزهري وبين الانتقال لمعهد الكونسر فتوار، اخترت الانتقال للكونسر فتوار .. ليس لأنني سأتعلم الموسيقى، ولكن لأنني سأكون مع أبي كل يومٍ في مكان عمله، حيث كان أبي في ذلك الوقت مُنتدَبًا من وزارة الثقافة لمعهد الكونسر فتوار أثناء فترة العام الدراسي لتدريس مادة التربية الفنية (الرسم).
في اليوم التالي توجه أبي إلى ناظر المعهد الأزهري لتقديم طلبٍ لنقلي من المعهد الأزهري إلى معهد الكونسر فتوار .. استقبل ناظر المعهد طلب النقل بمنتهى الدهشة، وقال لأبي: "أَمِنَ الورع والتقوى إلى الرقص والمغنى؟!!" .. فرد عليه أبي ردًا تلقائيًا عبقريًا: "لعل الله يهدي به قومًا ضالين" .. في النهاية رفض ناظر المعهد التوقيع على طلب نقلي، وطلب من أبي التصرف بعيدًا عنه .. ولولا أن أبي كان يعرف "ناس مهمين" جعلوه ينهي إجراءات طلب النقل عن طريق المديرية التعليمية، لما تركتُ المعهد الأزهري، ولما كان لهذه الحكاية التي سأرويها لكم - مع معهد الكونسر فتوار - أن توجد من الأساس.

وللحكاية بقية


























هناك تعليقان (2):

  1. Sorry Islam but I'm envying you right now for all that blessed . memories, please don't stop writing them from now on please they let me flew back to my childhood... kan el wa7d hamagy gdn

    ردحذف
  2. Thanks a lot for your comment, I'm pleased to see it, I promise you that I'll not stop writing my memories.
    Let me please know who you are because your name is appearing to me as unknown :)

    ردحذف