الأربعاء، 20 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (5) .. وسيم



وقفت أمام قبره لحظة دفنه وأنا أودعه إلى مثواه الأخير .. مذهولاً مصدومًا غير مصدقٍ أنه لم يعد بيننا وأنني لن أراه في حياتي مرةً أخرى .. لن أسمع صوت ضحكاته المرحة .. لن أرى ابتسامته التي لم تفارق وجهه في حياته .. لن نجلس سويًا على المقهى لأهزمه في الطاولة 31 ويهزمني في المحبوسة ثم نظل نتسامر ونتذكر أيام الدراسة ونضحك وقد انفصلنا عن هموم الحياة ونسينا مشاكل العمل التي لا تنتهي.
من بين دموعي التي لم أستطع كبحها أمام قبره، مرَّ أمام عيني شريط الذكريات التي جمعتني بأطيب من عرفت في حياتي .. وسيم.

*************************

عرفته للمرة الأولى في سنة أولى عمارة أثناء تبييض المشروع الأول .. كان أحد أفراد شلة مكونةً من أربعة أشخاص هم: وليد عادل وهيثم حسن ومحمد عيد ووسيم رابعهم .. كانت شلة تتميز بخفة الظل والضحك الذي لا ينقطع بمناسبةٍ أو بدون مناسبة .. كانوا يتمتعون بحس فكاهةٍ يحسدوا عليه وبكاريزما جذابة تجعل كل من يتعرف إليهم للمرة الأولى يشعر وكأنهم أصدقاء منذ سنواتٍ وليس منذ لحظاتٍ .. كان لقاءٌ واحدٌ بيني أنا وأحمد يوسف ومحمد أيمن من ناحية وشلة وسيم الرباعية من ناحية أخرى كفيلاً بأن نكون أصدقاءً منذ النظرة الأولى.
كنت أنا وأحمد يوسف في مجموعة د. بهاء بكري، بينما كان وسيم ومحمد عيد وهيثم ووليد عادل في مجموعة د. علي بسيوني .. لا أتذكر لماذا كان موعد تسليم المشروع لمجموعة د. علي سابقًا بأسبوعٍ كاملٍ لموعد تسليم المشروع لمجموع د. بهاء .. لكنها كانت بالتأكيد فرصةً ممتازةً لتجعلني أنا وأحمد نقضي مع شلة وسيم ليلة تسليم مشروع مجموعة د. علي .. بدأت الليلة بجلسة هزار وضحك كالعادة وانتهت بمساعدتنا لهم في إنهاء مشاريعهم .. فمنهم من احتاج أن نساعده في تهشير الظل، أو في تنقيط الزرع الذي يشل اليد، أو في رسم الأشجار والنخل، أو في كتابتي لعنوان المشروع وعناوينه الفرعية.
كان أحمد يوسف يحضر معه بعض شرائط الكاسيت التي تحتوي على كوكتيلات متنوعة لأكثر من مطرب، وكانت أسماء سيد تحضر الكاسيت، بينما كان دوري مقتصرًا على الاستماع :) .. وضع أحمد أحد شرائطه في الكاسيت فبدأت الأغنية الأولى التي لم أنسها حتى اليوم .. بدأت الأغنية بموسيقى هادئةٍ امتزجت فيها الدفوف النوبية مع العود الشرقي في إيقاعٍ ونغماتٍ ممزوجة بدفءٍ عجيبٍ، ثم انطلق صوت أحمد منيب هادئًا رخيمًا كمركبٍ شراعي يتمايل في مياه نيل أسوان الساحر:

في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى
آه يا حبيب عمري .. وصحبتي وقمري

كانت ليلةً لا تُنسَى وفيها تعرفنا على عضوين جديدين لم نكن نعرفهما من قبل .. هما هيثم لطفي ووليد عباس .. ظللنا جميعًا نضحك طوال الليل ونتبادل النكات والتعليقات الساخرة .. كانت الحياة خاليةً من أية مسئولياتٍ وكانت القلوب خاليةً من أية ضغائن، فكانت الضحكات صافيةً من القلب.

رحلة يا رحلة .. يا صعبة يا سهلة
رحالة خطوتنا .. في دايرة الرحلة

*************************

في الأسبوع الذي يليه تبادلنا الأدوار .. كانت ليلة تسليم مشروعي أنا وأحمد يوسف .. جاءت شلة وسيم الرباعية بالإضافة إلى وليد عباس وهيثم لطفي ومحمد أيمن لمساعدتنا هذه المرة .. وكالعادة كانت شرائط أحمد يوسف الكوكتيلية تسلينا أثناء العمل في المشروع .. مرت عدة أغاني لم أعرها انتباهًا، حتى عاود أحمد منيب الغناء من جديدٍ ليشجينا وهو يُكمل أغنيته:

ليه يا سنين العمر .. ترضي لينا بالمر
دا لولا فينا صبر .. لهان علينا العمر
في دايرة الرحلة .. أيامنا عَ المولى

في هذه الليلة قام هيثم لطفي بعمل عزومة لنا جميعًا عبارة عن أكلة كفتة وكان الحلو موزًا .. استكملنا العمل في المشروع بعد الانتهاء من هذه الوجبة .. بعد منتصف الليل كان جميع زملائنا من طلاب الدفعة يعملون في توترٍ وصمتٍ، بينما هناك في نهاية صالة رسم أولى عمارة عَلَتْ ضحكاتنا مع شلة وسيم أكثر من المعتاد .. كانت أي كلمةٍ عاديةٍ تجعلنا نقع على الأرض من كثرة الضحك .. لم نعلم هل كان السهر و"التطبيق" الذي لم نعتد عليه بعد هو ما كان يضحكنا، أم أن الموز الذي أكلناه من هيثم لطفي كان به شيئًا ما؟ .. هناك أحيانًا أسئلة في هذه الحياة لا نجد لها إجاباتٍ شافيةٍ كما تعلمون.

*************************

بعد هذا المشروع توطدت علاقتنا أكثر بوسيم وشلته .. شاركنا في أكثر من بحث .. خرجنا في زياراتٍ خارجيةٍ كان منها متحف أحمد شوقي ومتحف محمود خليل ورحلة سقارة ونزلة السمان وغيرها من الأماكن .. لكن هناك بحثًا لا ننساه وظللنا نحكيه في كل مرةٍ كنا نتقابل فيها بعد التخرج وحتى قبل وفاة وسيم رحمه الله .. كان بحث مادة الإنسانيات في مارس من عام 2000 .. كنا في نصف العام الدراسي الثاني لسنة ثانية عمارة .. كانت مجموعة البحث لهذه المادة من أكبر المجموعات البحثية التي تكونت خلال سنوات الدراسة في قسم عمارة .. كنا نزيد عن عشرة أفرادٍ .. كنت أنا وأحمد ومحمد أيمن ووليد عباس مع شلة وسيم الرباعية بالإضافة لثلاث زميلاتٍ من البنات .. ظللنا نعمل جميعًا في البحث كل يومٍ في صالة الرسم في الكلية حتى جاءت ليلة تسليم البحث وكنا متأخرين جدًا كالعادة وكان لا بد من "التطبيق" في مكانٍ ما حتى نتمكن من إنهاء البحث وتسليمه في موعده في الصباح .. رحنا نتشاور كثيرًا حتى اتفقنا على أن ترجع البنات إلى بيوتهن ويأتين في الصباح الباكر بينما يتوجه الشباب إلى بيت وسيم في الحلمية حيث تمتلك أسرته بيتًا غير مأهولٍ بجوار بيتهم .. كانت المرة الأولى التي أذهب فيها لبيت وسيم على عكس بقية شلته الذين ذهبوا إليها أكثر من مرةٍ .. ظل وليد عباس طوال الطريق يحكي لي عن العفاريت التي تسكن ذلك البيت الخالي، وعن الفارس الروماني الذي يمر كل ليلةٍ أمام ذلك البيت بعد منتصف الليل وهو يمسك برمحه ويرتدي درعه ويمتطي صهوة جواده، وعن العديد من المواقف التي يشيب لها الولدان شيبًا والتي رآها وليد رأي العين .. تملكني الخوف والهلع قبل أن نصل إلى ذلك البيت الأسطوري المرعب .. كنا كلما اقتربنا من البيت خطوةً أتراجع للوراء خطواتٍ، فيشدني وسيم للأمام وهو يضحك ويلقي باللائمة على وليد عباس لأنه أفشى السر وتسبب في إفزاعي بهذه الصورة المزرية .. ظللنا على هذا الحال حتى وصلنا إلى الشارع المؤدي إلى بيت وسيم فوجدنا في استقبالنا مجموعةً من الكلاب الضالة التي راحت تنبح علينا في حالة هياجٍ دون انقطاعٍ .. تراجعت للوراء مرةً أخرى وأنا أسبهم جميعًا وألعن ذلك اليوم الذي فكرت فيه في الانضمام إلى هذه المجموعة .. راحوا يضحكون بينما راح وسيم يطمئنني بأن هذه الكلاب صديقةً له وتعرفه جيدًا وبالتالي فلن تؤذينا .. لم أصدقه إلا بعدما تقدمنا وسيم واخترق صفوف الكلاب فامتنعت فورًا عن النباح .. تقدمت معهم في حذرٍ وعيني لا تفارق الكلاب التي امتنعت عن النباح لكنها ظلت تنظر لي نظراتٍ تمتلأ بالشر، وكأنها كانت تريد أن تقول لي: "لولا وسيم لاستمتعنا بتقطيعك إربًا بأنيابنا أيها الجبان" .. بعد خطواتٍ قليلةٍ توقف وسيم أمام أحد البيوت وهو يقول: "وصلنا .. حمد الله عَ السلامة" .. تذكرت فجأةً قصص العفاريت التي حكاها لي وليد فعاد الرعب يتملكني مرةً أخرى .. تراجعت للوراء خطوات وقد اتخذت قراري بالفرار حتى ولو تلقفتني الكلاب، فالموت بسبب كلبٍ ضالٍ أهون من الموت بسبب عفريت حائر .. أخبرتهم قبل أن يدخلوا للبيت باعتذاري عن عدم الاستمرار في هذا البحث وأنني سأعود إلى بيتي ولهم حرية إبقاء اسمي على البحث أو شطبه .. حاولوا إقناعي بشتى السبل لكي للعدول عن هذا القرار الأرعن، إلا أنني رفضت وتمسكت برأيي باستماتة حمارٍ حصاوي .. بعدما يأسوا من محاولة إقناعي، نظر أصدقائي السبعة إلى بعضهم البعض نظراتٍ لم أفهم معناها إلا بعدما هجموا عليّ على حين غرةٍ من جميع الاتجاهات وأمسكوا بتلابيبي وهم يجذبونني ناحية باب البيت .. أصابتني حالة هياجٍ هيستيري لم تحدث لي من قبل ولا من بعد وأنا أقاومهم ببسالةٍ منقطعة النظير .. كانت قوة مقاومتي تعادل قوتهم مجتمعين نظرًا لضخ جسمي لكل كمية الأدرينالين الذي يحتويه .. ظللنا عدة دقائق على نفس الوضع، هم يجذبونني ناحية باب البيت وأنا أقاوهم بالرفس والضرب والسب والصراخ الذي شق هدوء الليل، إلى أن خارت قواي وقواهم فراحوا يجرونني جرًا إلى داخل البيت .. ظللت أتلفت حولي كالمجذوب وهم يضحكون عليّ بلا انقطاعٍ .. وبعد أن هدأ رعبي قليلاً وهدأ ضحكهم، بدأنا نشعر بأن هناك رائحةً نتنة تنتشر في الغرفة، فانشغلنا بالبحث عن مصدرها ولكن بلا فائدةٍ .. بعد قليلٍ دخلت علينا والدة وسيم بطبقين ممتلئين بالسندويتشات وراحت تدعو لنا بالتوفيق والنجاح بطيبة أمٍ مصريةٍ أصيلةٍ .. أدركت منذ النظرة الأولى لوالدة وسيم مصدر طيبته وابتسامته الدائمة .. قالت لنا والدته قبل مغادرتها للغرفة: "إيه يا ولاد الريحة الوحشة اللي في الأوضة دي؟!" .. تركتنا بينما رحنا نبحث مرةً أخرى عن مصدر هذه الرائحة التي ازدادت قوتها عن ذي قبل .. قال محمد عيد في اشمئزازٍ: "يا جدعان في ريحة خرا في المكان" .. بعد قليلٍ انحنى محمد عيد ليتفحص بنطاله عندما وجد عليه شيئًا غريبًا ملتصقًا .. تحسس ذلك الشيء اللزج بأصابع يده ثم رفعها إلى أنفه ليشمه، ثم انقبض وجهه فجأةً في تقززٍ ونظر لي نظرةً طويلةً وقد راح السيناريو يتكون في عقله .. تذكر أننا مررنا في البداية على موضع وقوف الكلاب ثم تذكر أنه كان يمسكني من رجلي أثناء مقاومتي لهم قبل دخولنا المنزل .. لم يكن المشهد يحتاج إلى كثيرٍ من الذكاء لتخيله .. قال لي وهو على وشك الإصابة بالإغماء: "آه هوَّ خرا".

*************************

راح شريط الذكريات يمر أمام ناظريّ سريعًا في ومضاتٍ خاطفةٍ وأنا أقف أمام قبر وسيم أثناء دفنه .. تذكرت مواقفي معه في الكلية خلال سنوات الدراسة الأربعة في قسم عمارة .. تذكرت مقابلاتنا في بيت وليد عباس وتسجيلاتنا ببرنامج الجيت أوديو لإهداءاتٍ تذكارية للتاريخ .. تذكرت عملنا معًا في نفس الشركة بعد التخرج .. تذكرت مقابلاتنا على مقهى دوار العمدة، ومقهى صقر قريش مع وائل أخو زوجته، ومقهى عابدين مع شلتنا .. تذكرت كلامنا بالساعات من خلال الماسنجر حينما كنت أعمل بالسعودية بينما كان وسيم يعمل بقطر .. تذكرت إفطارنا معًا كل رمضان .. تذكرت زياراتنا المتكررة لبيت والديه قبل زواجه .. تذكرت زيارتي أنا ووليد عباس له يوم أحداث 11 سبتمبر 2001، قضينا اليوم من أوله معه في بيته وكنا نستمع لألبوم (سيدي وصالك) من الشريط الذي اشتراه وسيم في نفس يوم صدوره بالأسواق وبينما كنا ننقل الشريط من الكاسيت إلى الكمبيوتر دخلت والدته علينا الغرفة فجأةً وهي تصرخ قائلةً: "أمريكا بتتضرب يا ولاد" .. تذكرت والده وأخيه وأختيه وجدته الطيبة التي لم أرَ وسيم حزينًا كحزنه عليها يوم وفاتها .. تذكرت مكالماتنا التي كانت لا تقل عن ساعةٍ كاملةٍ في كل مرةٍ والتي لم تنقطع منذ استقرار وسيم في مصر بعد قدومه من قطر عام 2012 .. تذكرت فرحته بولديه مازن وحازم .. تذكرت يوم كلمته من حوالي أربعة أشهر لأخبره بأنني سأزوره في نهاية الأسبوع لأجده قد ذهب إلى العين السخنة مع أسرته ولن يكون متواجدًا في نهاية الأسبوع .. تذكرت مرضه وشكواه المستمرة من ألم ظهره الذي ظل يعاني منه كثيرًا في سنواته الأخيرة .. تذكرت ابتسامته التي لا تفارق مخيلتي منذ عرفت بالأمس خبر وفاته عن طريق الفيس بوك وخفت بعدها أن أكلمه على هاتفه غير مصدقٍ للخبر الذي كتبه أحد أصدقائه في العمل .. تذكرت وقوفي أنا وأحمد يوسف ووليد عباس ومحمد أيمن ليلة وفاته أمام المغسلة بمستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر ونحن في حالة ذهولٍ .. تذكرت جنازته هذا الصباح والتي حضرها مئات الأشخاص وهم يبكونه في صدقٍ غير مصدقين مثلي أنه قد توفي .. تذكرت جسده المسجى في نعشه وأنا ألقي عليه النظرة الأخيرة .. انهارت دموعي أنهارًا وأنا أتذكر أحمد منيب وهو يشدو في حزنٍ وأسى:

في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى
آه يا حبيب عمري .. وصحبتي وقمري
عيون مرة تبعد .. خطاوي مرة تعند
حنين جوانا يحكي .. وشوق جوانا يبكي
والدمع ساقية كبت
في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق