الاثنين، 25 أبريل 2016

رسائل الروح


في حياة كل إنسانٍ منَّا موقفٌ أو حدثٌ لا تعود الحياة بعده كما كانت قبله .. نقطةُ تَحَوُّلٍ تُغَيِّر مسار حياتك وتقلب كل موازينها رأسًا على عقبٍ .. جرسُ إنذارٍ يَقْرَعُ في رأسك كي تُعيد ترتيب أفكارك وطريقة تعاملك مع حياتك القصيرة .. صفعةٌ تُزلزِل كيانك كله لتمنحك الفرصة كي تصحِّح أخطاء الماضي .. رسالةٌ ربانيّةٌ تجعلك تُراجع حساباتك مع نفسك ومع مَنْ حولك ومع ربك مِن جديد.

قد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن فَقْدٍ لعزيزٍ اختطفه طائرُ الموت فجأةً من بين أحبائه وأصحابه وأهله، في وقتٍ لم يَدُرْ بِخُلْدِ كائنٍ كان أن يكون الموت قريبًا بهذه الدرجة .. فقد يَغترُّ الإنسان بصحته وصغر سنِّهِ ويظن بأن الموت بعيدٌ عنه للدرجة التي تجعله يستبعد حدوثه، فيأتي فَقْدُ عزيزٍ لديه ليكون كاللطمة المزلزلة لكيانه كي يتذكر أنه مهما أخذته الدنيا بزينتها ومهما خدعته بِبُهرجها ومهما أغوته بالمال والولد والصحة ومهما فتنته بسحرها وعطائها، فإن الزينةَ والبُهرجَ والمالَ والولدَ والصحةَ زائلون.

وقد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن موقفٍ عابرٍ أو لحظةٍ ما يتوقف أمامها الإنسان فجأةً بلا مقدماتٍ، فتكون سببًا في تغيير مجرى حياته إلى الأفضل.

وقد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن آيةٍ من كتاب الله أو فَقْرةٍ في كتابٍ تَقَعُ عيناك عليها فتتغلغل بين تلافيف مخك ومنه تنتقل إلى قلبك ثم تمس روحك فتستحوذ عليها لتملك كل كيانك في لحظةٍ نورانيةٍ ربانيّةٍ نادرةٍ، إذا تتبعتها ستأخذ بيدك إلى آفاقٍ رحبةٍ تنتشلك من واقعك المليء بالخطايا، لتسمو بك وتُطَهِّرُك من الآثام التي تُلَوِّث عقلك وقلبك وروحك.


الرسالة الأولى: وسيم - الثلاثاء 15 ديسمبر 2015


وَقَفْتُ أمام قبره لحظة دفنه وأنا أُوَدِّعَهُ إلى مثواهِ الأخير .. مذهولاً مصدومًا غير مُصدقٍ أنه لم يَعُدْ بيننا وأنني لن أراه في حياتي مرةً أخرى .. لن أسمع صوت ضحكاته المرحة .. لن أرى ابتسامته التي لم تفارق وجهه في حياته .. لن نجلس سويًا على المقهى .. تذكرت مواقفي معه في الكلية خلال سنوات الدراسة الأربعة في قسم عمارة .. تذكرت عملنا معًا في نفس الشركة بعد التخرج .. تذكرت مقابلاتنا على المقهى ونحن نلعب الطاولة، فأهزمه في الطاولة 31 ويهزمني في المحبوسة، ثم نظل نتسامر ونتذكر أيام الدراسة ونضحك وقد انفصلنا عن هموم الحياة ونسينا مشاكل العمل التي لا تنتهي .. تذكرت إفطارنا معًا كل رمضان .. تذكرت زياراتنا المتكررة لبيت والديه قبل زواجه .. تذكرت والده وأخيه وأختيه وجدته الطيبة التي لم أرَ وسيم حزينًا كحزنه عليها يوم وفاتها .. تذكرت مكالماتنا التي كانت لا تقل عن ساعةٍ كاملةٍ في كل مرةٍ والتي لم تنقطع حتى وفاته .. تذكرت فرحته بولديه مازن وحازم .. تذكرت مرضه وشكواه المستمرة من آلام ظهره التي ظل يعاني منها كثيرًا في سنواته الأخيرة .. تذكرت وقوفي ليلة وفاته أمام المغسلة بالمستشفى وأنا في حالةِ ذهولٍ .. تذكرت جنازته هذا الصباح والتي حضرها مئات الأشخاص وهم يبكونه في صدقٍ غير مصدقين مثلي أنه قد تُوُفِّيَ .. تذكرت جسده المُسَجَّى في نعشه وأنا أُلقي عليه نظرةً أخيرةً .. انهارت دموعي أنهارًا بينما يصدح في رأسي فجأةً صوت أحمد منيب يشدو في حزنٍ وأسى:

في دايرة الرحلة .. طُرُق بنا تِخْلَى
آه يا حبيب عمري .. وصُحبتي وقمري
عيون مرة تِبعد .. خطاوي مرة تِعند
حنين جوّانا يحكي .. وشوق جوّانا يبكي
والدمع ساقية كبت
في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى

من بين دموعي التي لم أستطع كبح جِماح هُطُولها أمام قبره، مرَّ شريط الذكريات أمام ناظريَّ سريعًا في ومضاتٍ خاطفةٍ .. تلك الذكريات التي جمعتني بأطيب من عَرَفْتُ في حياتي .. وسيم.
أدركتُ قبل أنْ أغادر المقابر أنَّ هذه اللحظة ستكون لحظةً فارقةً في حياتي، وأنَّ قادم الأيام لن يكون كسابقها.


الرسالة الثانية: الخامسة والثلاثون - السبت 16 يناير 2016

اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. ينتابني شعورٌ غريبٌ بانتهاءِ مرحلةٍ لن تعود، وبابتداءِ مرحلةٍ جديدةٍ بغموضها وأسرارها ومسئولياتها.
اليوم بَدَأْتُ أُدرك لماذا لا يفرح أبي دائمًا بيوم مولده منذ أن بلغ نفس العمر تقريبًا.
أشعر وكأن دورة الحياة قد بلغت ذُروتها اليوم، وسوف تبدأ في الانحدار بدءًا من يوم غدٍ .. قلبي يخبرني بذلك .. حتى التقويم على الحائط يخبرني بذلك .. فاليوم هو 16/1/16 .. كأنه نقطة انعكاس لما سبقه من سنوات.
اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. وقد رحل عن الحياة صديقٌ من الأعزاء قبل أيامٍ قليلةٍ .. فهل بدأ العِقْدُ في الانفراط؟! .. هل أكون أنا القادم؟!
اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. أشعر أن ذلك الطفل الذي كُنْتُهُ لن يعود مرةً أخرى .. اليوم يُولَدُ شخصٌ آخرَ جديدٌ يريد أن يتعلم من أخطاء الماضي .. فربما ما بَقِيَ من العمر لن يكون بقَدْرِ ما مضى منه.
لا بد أن أغتنم كل دقيقةٍ من وقتي - بل كل لحظةٍ - وأستمتع بها في فعل ما أحب ..
أقرأُ كتابًا ..
أكتبُ خواطري ..
أحفظُ آياتٍ من كتاب الله ..
أذهبُ إلى مكانٍ جديدٍ لم تطأه قدماي ولم تَرَهُ عينايَ من قبل ..
أُمَارسُ الهواية التي أحبها ..
أخرجُ مع أصدقائي المقربين ..
أقومُ بجولةٍ نيليةٍ في مركبٍ صغيرٍ ..
ألعبُ كرة القدم مع أصدقاء الطفولة ..
أسافرُ مع أسرتي في إجازة نهاية الأسبوع ..
أستقلُ القطار إلى مدينةٍ لم أزُرْها ..
أبِرُّ والديَّ وأصِلُ رحمي ..
أفعلُ الأشياء التي كانت تسعدني في طفولتي دون أن أخجلُ بحجة أنني قد كَبِرْتُ ..
أذهبُ إلى دار الأوبرا وأستمتعُ بحفلٍ موسيقي..
أصعدُ إلى سطح بيتي ليلاً بعد أن ينام الناس وأنظرُ إلى السماء وأخاطبُ الله وأبُوحُ إليه بما يُثقلُ على قلبي من همومٍ وما يجثم على روحي من آلامٍ ..
أفعلُ أي شيءٍ يُدخلُ السعادة إلى قلبي .. لن أكون روتينيًا ..
سأجعل يومي مُختلفًا عن سابقه ..
لن أتعلل بضغط العمل ومسئوليات الأسرة ..
لن أقول: " لقد كَبِرْتُ " ..
لن أتكاسل ولن أتصنع العوائق لنفسي ..
لن أجعل حياتي مملةً رتيبةً ولن أصنع من أيامي صورةً متكررةً، فأنا لن أعيش إلا حياةً واحدةً واللحظة التي تمر فإنها لن تعود مرة أخرى ..
لن أحبس نفسي في سجنٍ أنا من يملك مفتاحه .. سأطرقُ كلَّ بابٍ للسعادة .. وبإذن الله ستكون مفتوحةً.


الرسالة الثالثة: إذاعة الأغاني - الخميس 21 يناير 2016

أنتهيتُ لِتَوِّيَ من قراءة آخر روائع كاتبي الأثير عُمر طاهر (إذاعة الأغاني) .. كان الكتاب هو أول ما قرأتُ بعد وفاة صديقي (وسيم) رحمه الله .. أخذتُ بنصيحة أحد أصدقائي المقربين بأنْ أبدأ في قراءة كتابٍ ما حتى أخرج من جو الاكتئاب الذي لازمني منذ صدمة رحيل (وسيم) .. عَرَضتُ على أصدقائي في (جروب القراءة) على (فيس بوك) أن يرشِّحوا كتابًا نقرأه سويًّا، فوقع اختيارهم على .. (إذاعة الأغاني) .. لم أكن متحمسًا للقراءة في البداية، لكن سُرعان ما شدَّني الكتاب بفكرته وموضوعاته.

فكرة الكتاب عبقريةٌ .. مَنْ فينا لا ترتبط ذهنيًّا عنده أغنيةٌ معينةٌ سمعها لأول مرةٍ مقترنةً بموقفٍ ما في حياته؟ .. أو كما لخَّص عُمر طاهر الفكرة في مقدمة الكتاب عندما قال: "بينما تجري الحياة .. ثمة أغنيةٌ ما تدور في الخلفية. بينما تدور أغنيةٌ ما .. ثمة حياةٌ تجري في الخلفية".

من بين الحَيَوَات والأغنيات الكثيرة التي جرت فوق صفحات الكتاب، استوقفتني ثلاثُ فَقَرَاتٍ كانت مُتَخفِّيةً بين السطور وبين الألحان، لكنها حَمَلَتْ بين حروفها وميضًا كـ(فلاش كاميرا) سطع فجأةً وسط الظلام، انعكس على عقلي بثلاث ومضاتٍ خاطفةٍ تَوَقَّفْتُ أمامها بكثيرٍ من التفكير والتدقيق، لأشعر وكأن (عمر طاهر) كان يقصدني أنا بالذات، أو كأن الله سخَّر (عمر) لي ليجعل من كلماته وسيلةً لإيصال رسالةٍ من روحه إلى روحي .. رسالةٌ جاءت في توقيتٍ مثاليٍّ، أو كما قال (عمر) في حكايته (فرصة عُمْر): "بعيدًا عن كل تلك اللحظات التي تقول إنك كبرت، يظل الشعور الحقيقي بالمسألة مرتبطًا بلحظةٍ مُفْرَغةٍ لا حدث فيها. مجرد رسالةٌ عابرةٌ يلتقطها العقل بدون مقدماتٍ من مكانٍ مجهولٍ، تقول للواحد إنه تجاوز مرحلةً ما في الحياة، بينه وبينها ما يكفي الآن لأن يتأملها بهدوء."

لقد كنت بالفعل في حاجةٍ ماسةٍ إلى رسالةٍ كتلك كي أتأملها في هدوءٍ .. كانت أُولى رسائل (عمر) لي في حكاية (فرصة عُمْر) تقول: ((أنا أشعر بإرهاقٍ ما في هذه اللحظة لم أعرفه من قبل، أنا أيضًا لديَّ أحزانٌ لم أتوقف عندها لأعطيها حقها من الانتباه. كانت قفزاتي أوسع مما يجب، لدرجة أنني لم أتوقف لأتأمل ما سقط من جيوبي أثناء القفز، كنتُ ألهث دون أن أعطي شيئًا واحدًا في حياتي حقه كاملاً، ومثلما يسابق الكلارينت صوت الحلاني كنت أنا أسابق الحياة بحثًا عن شيءٍ ما لا أعرفه. الآن تحديدًا يُوجعني بشدةٍ أنني لا أعرفه .. لقد كبرت.))

ثاني رسائل (عمر) لي كانت في حكاية (حلوة يا بلدي)، يقول لي فيها: ((أَمُرُّ كل يومٍ بمحلٍ يبيع الأدوات الموسيقية، يضع في الفاترينة جيتارًا أبيض اللون، أتوقف أمامه كل مرةٍ وأسأل نفسي: هل أدخل لأشتري هذا الجيتار أم أنه يجب أن أتعلم العزف أولاً؟
كنتُ أخاف أن يستغرقني تعلم العزف فيضيع مِنِّي الجيتار الأبيض ويشتريه شخصٌ آخرَ، وكنتُ أخاف أن أشتري الجيتار ثم أكسل عن تعلم العزف فيتحول إلى قطعة ديكور في غرفتي.
مرت فترة طويلة دون أن أحسم قراري، لم أتعلم العزف، ولم أشترِ الجيتار، اكتفيت فقط بأن أَمُرُّ به كل يومٍ لأطمئن أنه ما زال معروضًا للبيع.))


كانت رسالة (عمر) الثالثة لي في آخر حكايات الكتاب (نور العين)، وكان يقول لي فيها: ((يحدث أحيانًا أن يقع الواحد من نفسه، يفقد فجأةً كل ما يعرفه من أهدافٍ أو أحلامٍ، أو ربما يسير بداخل واحدٍ منها بلا وعي، يسقط عن الواحد إحساسه بالزمن، ربما من فرط الرتابة أو فرط الإثارة، تسيطر ميكانيكيةٌ ما على طريقة حياته، فهو يتحرك بالفعل، لكن جسده فقط هو الذي يتحرك، بينما لا توجد بقعة نورٍ واحدةٍ في الروح أو الوعي.
تهجم هذه اللحظة عليك دون أن تدري، لن تعرف أنك كنت تسير فاقد الوعي إلا مع لحظة النهاية، عندما يحدث ما يجعلك تستفيق، تعود إلى روحك فتعرف أنك كنت بعيدًا، هناك من يغادر لحظات اللاوعي هذه بصدمةٍ، وهناك من يُوَدِّعُها على باب فرحةٍ مفاجِئةٍ، هناك من يحتاج إلى جلسة كهرباءٍ أو ما يُشْبهها، لكن في كل الأحوال عند عودتك ستسأل نفسك كثيرًا: أين كنت؟ وكيف انقضت تلك الفترة وأنت مُنَوَّمٌ؟ ستفكر كثيرًا، لكن لحظة الإفاقة ستمحو كل ما سبق، وستجعلك تمسك بطوق نجاةٍ ألقته إليك سفينةٌ لم تكن تبحث عنك.))


شكرًا (عمر طاهر) .. لقد وَصَلَتْ رسائلُك إليَّ كاملةً .. فَقَدْ كان كتابك (إذاعة الأغاني) هو السفينة التي لم تكن تبحث عنِّي .. لكنها ألقتْ إليَّ بطوق النجاة الذي أنقذني من الغرق ليُوصِلني إلى الشاطئ بسلامٍ.

الأربعاء، 6 أبريل 2016

رواية (قرية ظالمة) - محمد كامل حسين



الرواية عبارةٌ عن كتابٍ فلسفي من الطراز الأول، صاغه الكاتب في قالبٍ روائي .. لذلك لا أعتبرها روايةً، حيث أنها تختلف في أسلوبها وعناصرها وحواراتها عن الشكل التقليدي للرواية، وأعتقد أن تقييمها باعتبارها "رواية" سيكون فيه ظلمٌ وغُبنٌ كبيرٌ لها لافتقادها عناصر الرواية المتعارف عليها عند أهل الأدب، والأفضل هو التعامل معها باعتبارها "كتابًا فلسفيًّا" استخدم فيه الكاتب ألعابًا عقليّةً في شكل حواراتٍ ومناقشاتٍ تشحذ العقول وتثير الفكر، تغوص في أعماق النفس البشرية بطباعها وتقلباتها ونظرتها – التي تختلف من شخصٍ لآخرٍ ومن جماعةٍ لأخرى – لعددٍ من المفاهيم الحياتية؛ كالحق والباطل والضمير والحب والعدل والعلم والدين والإيمان والرمز والألم والخير والشر والنظام والحرب والبطولة والخيانة.

وقد استخدم الكاتب - لإيصال رؤيته - حدثًا محوريًا ومؤثرًا في تاريخ البشرية، وهو قضية صلب السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، طارحًا الأمر – بعيدًا عن الجوانب التاريخية والدينية للحدث – من خلال ثلاث زوايا وأُطُرٍ مختلفةٍ، فقسَّم الكتاب لثلاثة أقسامٍ متصلةٍ منفصلةٍ تدور جميعها في اليوم الذي اجتمع فيه بنو إسرائيل لتنفيذ حُكمهم الظالم بصلب المسيح عيسى عليه السلام؛ القسم الأول: عند بني إسرائيل، والقسم الثاني: عند الحواريين، والقسم الثالث: عند الرومان .. وكيف أن كل طرفٍ من الأطراف الثلاثة قد اختلفت رؤيته للحقيقة الواضحة الجليّة (دعوة المسيح ورسالته السماوية)، وكيف انتهى الأمر بإصدار بني إسرائيل الحُكم عليه بالإعدام رغم أنهم أهل دينٍ وقيمٍ، إلا أن تفقههم في الدين لم ينجهم من الضلال لأنهم رفضوا أن يحتكموا إلى "ضميرهم" .. ثم ينقلنا الكاتب لاجتماع الحواريين بعد إصدار الحُكم، وكيف أنهم اختلفوا حول كيفية تعاملهم مع الحدث ودفاعهم عن معلمهم وقائدهم، رغم أنه لم يكن على وجه الأرض وقتها من هم أطهر منهم نفسًا وأعظم خُلُقًا، إلا أنهم كادوا أن يقعوا في الفتنة لولا تدخل الحكيم الماجي.

وخَلَصَ الكاتب في النهاية إلى أن البشر لا يتعظون أبدًا، وسيختلفون حول قضايا ومفاهيم حياتية - قد تبدو بديهيةً - مهما كانت الحقيقة جليّةً، وأرجع ذلك إلى أن هناك ثلاث قوى تعمل في حياة البشر وهي: "القوة الحيوية" وما فيها من غرائزَ وشهواتٍ ونزعاتٍ، و"قوى العقل" وما فيها من قدرةٍ على المعرفة، و"قوة الضمير" وما فيها من إدراكٍ للحق والباطل .. ويرى الكاتب أن كل قوةٍ منهم تحتوي على خيرٍ وشرٍ .. ويرى أن أوجه الخير في القوى الثلاث تتعارض فيمحو خيرُ كلٍ منها خيرَ الأخرى وينجم الشر! في حين أن أوجه الشر في القوى الثلاث تتحد فيشتد بأسها! .. ويرى أن لكل قوةٍ فريقًا يؤمن بأن السيادة يجب أن تكون للقوة التي يؤمن بها فيتعصب لها .. ويرى أن أصل الداء هو أن كل فريقٍ يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن القوة التي يتبعها هي الصواب، وأن كل من خالفها فهو على خطأ .. ويرى أن الحل والإصلاح إنما يكون في تهذيب هذه القوى الثلاث كي لا يطغى إحداها على الأخرى، وأن الاعتدال وحده هو الذي يجمع هذه القوى على الحق، فتكون بذلك "القوة الحيوية" مصدر نشاطٍ، وتكون "قوة العقل" دليلاً وهاديًا، وتكون "قوة الضمير" مانعةً لهما من الشطط.

وربط - في خاتمة كتابه – بين تلك النظرية وبين ما حدث من بني إسرائيل والحواريين والرومان يوم جمعة الحُكم بإعدام المسيح، حيث تجمّعت كل عوامل الضلال والخطأ في ذلك اليوم فحدث ما حدث .. فإذا ما تعلم الناس - في يومنا هذا - الدرس المستفاد مما حدث ونجحوا في تجنب عوامل الضلال والخطأ وهذبوا من غرائزهم وعقولهم وضمائرهم، فسوف يرون الحق حقًا والباطل باطلاً .. أما إذا ما تعصب كل فريقٍ للقوة التي يتبعها دون اعتبارٍ لبقية القوى، فسوف يرون الحق باطلاً والباطل حقًا، وبالتالي سيطالبون بإطفاء كل شمسٍ ساطعةٍ وسيعملون على طمس كل آيةٍ بيّنةٍ وصلب كل حقيقةٍ جليّةٍ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.