الجمعة، 29 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (6) .. أول اسكتش وأول مشروع وأول تطبيقة في عمارة

الزمان: أكتوبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

كان أول تجمع للدفعة في صالة أولى عمارة لعمل أول "اسكتش" للمشروع الأول لمادة التصميم المعماري (مشروع مدخل حديقة عامة) .. كانوا قد طلبوا منا عمل شفافات تحضيرية في المنزل للمسقط الأفقي والموقع العام والواجهة الرئيسية وقطاع طولي، قبل أن نبدأ في تبييض هذه الشفافات في أرض المعركة (صالة الرسم) في ذلك اليوم .. اخترت أنا ومجموعتي – التي بدأت معالمها في التكوين – مكانًا متوسطًا في الصالة واتخذنا مجلسنا متجاورين .. أخرجت أسماء سيد جهاز الووكمان الصغير من حقيبتها وشرعت في تشغيله.

تحت الضلة .. اسم الله ما شا الله
صحبة وشلة .. وردة وفلة .. أحباب والله وشوفنا ليالي
يااااااااااا ليالي .. تعااااااااااالي تعالي

كان هشام عباس قد أصدر أحدث ألبوماته آنذاك (حبتها)، وكنت أسمع الألبوم للمرة الأولى .. لذا لا يزال مرتبطًا في ذاكرتي بذلك اليوم وتفاصيله التي لم أنسها.
لا يملك هشام عباس كاريزما عمرو دياب أو وسامته، ولا يملك عمق صوت محمد منير، ولا يملك شعرًا ناعمًا مُرسلاً كوائل كافوري، ولا يملك عيونًا زرقاءً كمصطفى قمر .. لكنه يملك قلب طفلٍ ينعكس على ملامحه وحركاته وطريقة كلامه، ويملك روحًا مرحةً تشع بهجةً ليخرج صوته وأغانيه ملأى بالفرحة فتنتقل عدوى السعادة منه لكل من يستمع إليه على الفور.

ساعة لقلبك يا جميل .. اتهنى وحب ميل
إعشق إضحك للدنيا .. عمرك تلقاه حاجة تانية
عمره ما هينقص ثانية .. لو تسهر طول الليل

ثبتنا اللوحات البيضاء الكانسون، وقمنا برش بودرة (التلك) حتى لا تتسخ اللوحة أثناء الرسم .. بدأنا في تخطيط اللوحة باستخدام المسطرة حرف (T) مقاس 120 سم والمثلث الأرسطو صديق المعماري.

عشان خاطرك أنا حبيت .. غناوي الحب من تاني
عشان خاطرك أنا غنيت .. بفرحة وسط أحزاني
عشان قلبك خفيف الروح .. يلازمني منين ما بروح
يداوي قلبي أنا المجروح .. بِحُبِك .. بِحُبِك يملا وجداني

أخرجنا شفافاتنا التي قمنا بتجهيزها في البيت وبدأنا في التبييض .. كان أحمد يوسف أكثرنا تميزًا في هذا اليوم .. فقد راح يرسم لوحته بإتقانٍ واضحٍ وأداءٍ متميزٍ .. وكان الوحيد بيننا الذي رسم (أيزوميترك) كاملاً للبوابة، ما جعله محط إعجاب جميع زملائنا ممن نعرفهم ومن لا نعرفهم .. كان كل من يمر بجواره يتوقف للحظاتٍ ليثني على لوحته ويلقي إليه بكلمات الإعجاب والإطراء.

وأنا وأنا وأنا وأناااااااا .. وأنا أعمل إييييييييييه؟
وأنا وأنا وأنا وأنااااااااا .. وبإيدي إيييييييييه؟

****************************

كنا نرى أحمد في ذلك اليوم عبقريًا قد هبط من كوكبٍ آخرٍ في وسط مجموعةٍ من الهواة أمثالنا .. لم يكن يساورنا أدنى شك في أن أحمد سيحصل على أعلى درجة في هذا الاسكتش، ليس على مستوى شلتنا فحسب، بل على مستوى الدفعة كلها .. رحت أؤكد له ذلك أثناء انتظارنا للأوتوبيس بالمحطة أمام الكلية بعد انتهاء اليوم، وقلت له – من كل قلبي – أنه يستحق ذلك عن جدارةٍ واستحقاقٍ.
فجأة وبدون سابق إنذارٍ لم أجد أحمد بجواري، فقد جرى في لمح البصر بأقصى سرعته ليلحق بأتوبيس (12) الذي دخل المحطة ورحل دون أن يتوقف كأي أتوبيسٍ يحترم نفسه، ما اضطر أحمد أن يبذل مجهودًا خارقًا ليلحق به .. وبعد محاولةٍ مستميتةٍ استطاع أحمد أن يضع قدمًا على درجة الباب الخلفي للأتوبيس، لكن يده بدلاً من أن تمسك في القائم الحديدي أمسكت الهواء، ما جعله يفقد توازنه ويقع على قارعة الطريق متدحرجًا بعنفٍ.
هرولتُ باتجاهه على الفور لأطمئن عليه .. كان قد نهض وهو ينفض ملابسه .. كانت الخسائر تنحصر في جرحٍ في وجهه وآخر في ذراعه وثالث في ساقه، بالإضافة إلى كسر المسطرة الـ (T) وتلف "رول اللوحات" الذي كان يحمله على ظهره وتلف الشفافات التي كانت بداخله والتي تخص اسكتش المشروع.
في اليوم التالي قَدِمَ أحمد وهو يضع لاصقًا طبيًا على جرح وجهه وجرح ذراعه .. لكن الجرح الأكبر كان عندما استلمنا درجات الاسكتش الذي قدمناه بالأمس .. حصل أحمد على (B-) وبجوارها كلمة (مجهود طيب) بخطٍ أحمرٍ كبيرٍ!!.. كانت درجته أقل من درجات شلتنا جميعًا .. أصابتنا الصدمة والذهول تمامًا كما أصابته .. صرخ أحمد فجأةً بأعلى صوته: "لأ حراااااااااااااااام" وهرول من أمامنا حتى اختفى عن الأنظار .. لا بد أنه كان يلعن تلك اللحظة التي تعرف فيها على هذه الشلة "النحس" .. في الحقيقة لا أستطيع أن ألوم عليه في ذلك.

****************************

في ليلة تسليم المشروع، كانت مجموعة د. بهاء بكري تجلس في صالة عمارة ليضع كل طالبٍ اللمسات الأخيرة على مشروعه قبل تسليمه صباح اليوم التالي .. كانت شلتنا قد احتلت آخر جزءٍ من صالة الرسم، ورحنا نعمل بتركيزٍ شديدٍ بينما هشام عباس لا يزال يسأل – من خلال جهاز الكاسيت الخاص بأسماء سيد – عن حبيبته التي تركته ورحلت ..

فييين .. فين وفين بتغيب وناسينا
فييين .. فين وفين فاكر أراضينا
فين وفين .. أيامنا معاك
فين وفين .. يا اللي إنت هناك
فين وفين .. نتمنى رضاك
فين وفين .. واجب تراضينا

كان هيثم لطفي قد قام بعمل عزومةٍ لنا عبارة عن أكلة كفتة وموز ردًا لمساعدتنا له قبل تسليم مشروعه مع مجموعة د. علي بسيوني في الأسبوع السابق .. استكملنا العمل في المشروع بعد الانتهاء من هذه الوجبة، ولكن يبدو أن الموز كان به شيءٌ غير طبيعي أصابنا بحالة من "التهييس" الجماعي.

بيَّاع الهوى .. خدَّك تفاح
وأنا قلبي استوى .. وإزاي أرتاح
في عنيك الدوا والهوى جَرَّاح
بيَّاع الهوى .. خدَّك تفااااااح

كان الليل قد انتصف وأرخى سدوله، وحل الهدوء بين زملائنا في أنحاء الصالة من أجل التركيز في إنهاء المشروع، بينما راحت ضحكاتنا تعلو – من أثر الموز – في نهاية الصالة حيث نجلس .. كانت شلة وسيم – رحمه الله – تسهر معنا في هذه الليلة لمساعدتنا، وقبل الفجر كان "التهييس" قد بلغ مداه.
نظر لي أحمد يوسف من فوق شاسيهه وقال لي: "بقول لك إيه يا هيثم .. هو الساعة بقت كام دلوقت؟"
نظرت في ساعتي ثم أجبته: "الساعة أربعة وربع".
فقال لي: "طيب أنا هغفِّل نص ساعة عشان حاسس إني فصلت .. بس إبقى صحيني وحياة والدك".
فرددت: "ماشي يا اسطى".
أحنى أحمد رأسه أمامه وأغمض عينيه وأثنى ذراعيه فوق شاسيهه متخذًا وضع النوم، بينما رحت أنا أستكمل العمل في مشروعي .. كنت متأخرًا كعادتي - التي لم تنقطع حتى أنهيت الدراسة - فلم أجرؤ أن أنام مثلما فعل أحمد .. بعد عدة ثوانٍ، رفع أحمد رأسه وتحفزت حواسه فجأة وهو يسألني: "هو أنا قلت لك (يا إسلام) ولا (يا هيثم)؟!".
أجبته في خمول: "قلت لي (يا هيثم)"
فسألني في اندهاش: "طيب وإنت ما علقتش ليه؟"
أجبته وأنا أقاوم رغبةٍ قويةٍ في النوم: "بصراحة كسِّلت .. هو أنا لسة هقول لك إن أنا إسلام مش هيثم .. يا عم كبر مخك".

الله يسلِّم حالك .. الله يديمك طيب
يا اللي الشوق مرسالك .. والله الفرْح قريِّب 
غالي سلامك .. عالي مقامك
طال العمر كتير في وصالك .. الله يسلِّم حالك

مع دخول أول ضوء للنهار من خلال نوافذ الصالة، كانت أغلبية الدفعة قد غطت في نومٍ عميقٍ، كلٌ في مكانه .. بينما كنت لا أزال متيقظًا وإن كنت قد بدأت أرى الصورة أمامي مهتزة .. فجأة استيقظ زميلنا أحمد رياض من نومه وهو يقول: "مين اللي خد الفيل م البلان؟" .. كان زميلنا أحمد شفيق يجلس بالقرب منه، فأجابه بتلقائية: "اللي خد منك الفيل يا أحمد قادر يرجَّعه .. كمِّل نوم يا حبيبي".
في الحقيقة لا أتذكر جيدًا هل أكل أحمد رياض وأحمد شفيق معنا من الموز أم لا .. أحيانًا تخونني ذاكرتي.

****************************

قبيل الظهيرة كنا قد سلَّمنا مشاريعنا ووقفنا خارج الصالة ننتظر انتهاء الدكاترة من تصحيحها تمهيدًا لإعلان النتيجة.
كانت درجات اسكتشاتي جيدة، ما جعلني مطمئنًا من حصولي على درجةٍ عاليةٍ .. رحت أعد الدقائق حتى انتهى التصحيح وخرج الدكاترة من الصالة، فدخلنا في لهفةٍ على الفور لنتعرف على النتائج.
وقفْتُ أمام مشروعي محملقًا وقد أصابتني الصدمة بعدما رأيت درجتي .. كانت مكتوبةً بالقلم الرصاص بخطٍ كبيرٍ داخل دائرة .. 52 من 100 .. لم أشعر بنفسي وأنا أهرول خارجًا من الصالة كالمجذوب وأنا أصرخ قائلاً: "لأ حراااااااااااااام" .. أين رأيت هذا المشهد من قبل؟ .. كما أخبرتكم من قبل: أحيانًا تخونني ذاكرتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق