الخميس، 24 مارس 2016

حكايتي مع عمارة (8) .. قسم عمارة، مصنع الرجال



هناك اعتقادٌ سائدٌ لدى طلاب كلية الهندسة عامةً بأن قسم عمارة قسمٌ دخيلٌ على الكلية ولم يكن ينبغي له أن يكون من بين أقسامها ..
فمنهم من يقول بأن قسم عمارة هو "أدبي هندسة" ..
ومنهم من يدَّعي بأن قسم عمارة هو "قسم الفرافير" ..
ومنهم من يؤمن بأن طلاب عمارة لا يحملون همًّا للدنيا ولا يشغل بالهم إلا الاستماع إلى الأغاني والخروجات التي لا تنتهي بحجة الأبحاث ..
ومنهم من يشيع – تصوروا؟! - بأن "بنات هندسة الحلوين" لا تجدهن إلا في قسم عمارة!! .. بل ويحسدوننا – نحن "أولاد عمارة" - على ذلك !!..
لا أدري في الحقيقة من أين جاءت لهم هذه الخيالات والأوهام .. فهؤلاء لم يجرِّبوا أن يواصلوا الليل بالنهار – دون نومٍ – ليومين وأحيانًا لثلاثة أيامٍ متصلةٍ، كي ينهوا – بالكاد - مشروع مادة التصميم أو يسلِّموا لوحات مادة الـ Working أو ينتهوا من بحث مادة الـ Urban في موعده ..
هؤلاء لم يُوضعوا تحت ضغط العمل لعددٍ من الأبحاث والمشاريع تخص ست موادٍ دراسيةٍ مختلفةٍ في توقيتٍ واحدٍ ..
هؤلاء لم يجرِّبوا إحساس أن تمتحن مادةً زمن إجابتها ثمان ساعاتٍ – مادة التصميم المعماري – بل وتتمنى لو يمتد وقت الامتحان لثمان ساعاتٍ إضافيةٍ أخرى .. يقف فيهم طالب عمارة محنيّ الظهر دون أن يجلس، مُطَالَبًا بأن يقوم بعمل رسوماتٍ تصميميةٍ كاملةٍ من مساقطَ وواجهاتٍ وقطاعاتٍ ومنظورٍ وإظهار كل ذلك وتلوينه بعد أن يأتي بفكرةٍ تصميمةٍ لمشروعٍ ما، لم يره ولم يسمع عنه في حياته إلا داخل لجنة الامتحان !!.. هؤلاء لم يجرِّبوا ذلك الشعور لأن أقصى وقتٍ قضوه في امتحان أي مادةٍ من مواد أقسامهم لم يتجاوز الثلاث ساعاتٍ ..
هؤلاء قد تعوَّدوا على رفاهية "فونسة" اللوحات ونقل "شيتات" الـ Steel والـ Structure والـ Concrete، ثم في النهاية يقولون على طالب عمارة أنه "فرفور" !!..
هؤلاء كان مشروع تخرجهم يتم في إطار مجموعةٍ لا تقل عن ثلاثة طلابٍ، بينما طالب عمارة "الفرفور" هو الوحيد بين طلاب جميع أقسام الكلية الذي يقوم بتنفيذ مشروع تخرجه بمفرده ..
هؤلاء يتناسون أن طالب عمارة هو الوحيد بين طلاب جميع أقسام الكلية الذي لا يعرف طعمًا للإجازات أيام الجمع والأعياد، حيث يقضي طالب عمارة وقته أثناء هذه الإجازات في عمل بحثٍ مع مجموعته، أو تبييض مشروعٍ بصالة الرسم بالكلية، أو زيارةٍ ميدانيةٍ لمكانٍ يتطلبه أحد الأبحاث أو المشاريع ..
هؤلاء لا يعرفون إحساس أن تمكث خارج البيت بالأيام لا ترى أهلك وتأكل من الشارع، ويكون بيتك هو "صالة الرسم" بالكلية والتي يقضي بها طالب عمارة ثلاثة أرباع وقته في أغلب الأيام، بينما ينصرف الآخرون مهرولين إلى منازلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي في الثالثة عصرًا - على أقصى تقديرٍ – للحاق بوجبة الغداء مع أهليهم والاستمتاع بالنوم ساعة القيلولة ..

كنت أتحدث منذ أيامٍ مع أحد أصدقائي عن العمل ومشاكل الحياة، فقال لي: "مهنة الهندسة شاقة .. كان الله في عونكم وقدَّركم على الضغط الذي تعانون منه في عملكم".
ابتسمت وأنا أتذكر أيام الشقاء أثناء الدراسة بالكلية، وقلت له: "لن تصدقني إذا قلت لك أنه رغم أنني أعمل منذ ما يقارب الأربعة عشر عامًا منذ تخرجي وحتى اليوم، إلا أنه مهما بلغت درجة الضغوط والصعوبات في العمل فإنني لم أرَ في حياتي ضغوطًا وصِعابًا أكبر مما مررت به في السنوات الأربعة التي قضيتها في دراسة العمارة .. وهذا ساعدني في عملي وفي حياتي بوجهٍ عامٍ على اجتياز أية ضغوط قد تحدث لي بكل بساطةٍ، فمهما زادت فلن تبلغ ربع ما مررت به أثناء الدراسة في عمارة".
وسرحت بعيدًا وأنا أتذكر تلك الأيام الصعبة والتي – رغم مشقتها وقسوتها – أتمنى لو تعود الصحبة واللمة التي كانت تجمعنا داخل جنبات صالة عمارة بمناضدها الضخمة ومشاريعنا المتراصة عليها وكراسيها العالية وسهراتنا ولحظات الفرح ولحظات المرارة ..
أتمنى لو كانت الذكريات الجميلة يمكن أن تترجم إلى واقعٍ ملموسٍ يمكن معايشته وتكرار مشاهده وأحداثه .. لكن – بكل أسفٍ – تبقى الذكريات دائمًا حبيسةً داخل جدران عقولنا وقلوبنا، وأقصى ما يمكن أن نفعله - كي نحررها من محبسها - أن نتحاكى بها في جلسة سمر مع أصدقاء العمر، أو نخرجها في صورة كلماتٍ على الورق ننفث بها عما يجيش في صدورنا من حنينٍ وشوقٍ لأيامٍ لن تعود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق