الجمعة، 15 يناير 2016

حكايتي مع عمارة (3) .. أول يوم في عمارة

الزمان: السبت 19 سبتمبر 1998
المكان: مدرج السنة الأولى – الدور الثالث – مبنى عمارة

من بين مئات المحاضرات التي تلقيناها على مدار أربع سنواتٍ هي عمر دراستنا بقسم عمارة، تحتل المحاضرة الأولى موقع الصدارة عندي بين جميع المحاضرات، ولا تزال عالقة في ذاكرتي بكل تفاصيلها وكأنها كانت منذ أيام قلائلٍ ولم يمر عليها أكثر من سبعة عشر عامًا ! .. يومها استقبلنا د. محمد سامح – رئيس القسم آنذاك – بوجهه البشوش وابتسامته العذبة وأسلوبه الساحر .. كانت محاضرة في مادة إنشاء المباني وتحولت مع مرور الدقائق إلى محاضرة تعريفية بالقسم ومواده عامةً، ثم تطرق الحوار إلى مستقبل خريج العمارة وظروف سوق العمل .. من أبرز النقاط التي تحدث فيها أن خريجي عمارة نوعان: مهندس مصمم ومهندس منفذ .. 2% فقط من المهندسين المعماريين يعملون في مجال التصميم، بينما يعمل الـ 98% الباقون في مجال التنفيذ .. ذكر كلامًا عن أنواع الرخام والجرانيت والتفاوت فيما بينها في الألوان والجودة والسعر، وأحدث حالة من الهرج والمرج داخل المدرج حينما ذكر رخام (لحم الهوانم) ذا اللون الوردي، فسمعنا الضحكات الذكورية العالية والشهقات الأنثوية الخجلى .. قال كلامًا عن أن المهندس المعماري يكون في أي مشروعٍ كالمايسترو الذي يقود الأوركسترا .. كان يقصد بالأوركسترا باقي مهندسي المشروع من مدني وكهرباء وميكانيكا .. خرجنا من هذه المحاضرة بانطباعٍ مريحٍ عن القسم .. أعتقد أننا قد خُدِعنا بهذه المحاضرة البراقة خفيفة الظل .. فالقادم لم يكن ورديًا بلون (لحم الهوانم) كما تصورنا !.

***************************

بعد انتهاء محاضرات اليوم الأول، خرجت بصحبة صديقي الجديد/القديم (أحمد يوسف)، وأثناء سيرنا بالممر المفتوح بجوار سلم الدور الأرضي الملاصق لمدرج 3002 المؤدي إلى الجبلاية، قابلنا شخصًا لا أعرفه سلّم علينا بحميميةٍ فظننت أنه صديقٌ لأحمد يوسف، ظل يثرثر معنا قرابة نصف الساعة دون كللٍ أو مللٍ حتى اضطررت إلى الجلوس على أول درجات السلم .. كان قصير القامة مفلطح الأنف أجش الصوت بصورةٍ مبالغٍ فيها وكأنه يستخدم مؤثراتٍ صوتية تغير من صوته الأصلي .. عرفت من حديثه أنه معنا في قسم عمارة بالسنة الأولى أيضًا وأنه قد فاتته أول محاضرتين، فظل يسألنا عنهما وعما ورد بهما، وراح يكرر بعض الأسئلة التي أجبناه عليها من قبل .. بدأت أشعر بالملل من كثرة أسئلته وتكرارها رغم إجابتنا عليها أكثر من مرةٍ وبنفس الردود دون زيادةٍ أو نقصان، فعرضت عليه أن يقوم بتصوير المحاضرتين اللتين قمت بتسجيلهما في دفتري الجديد حتى أنهي هذه الوقفة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبًا .. رحَّب بالعرض فتوجهنا جميعًا إلى أكشاك التصوير خارج الكلية والتي تقع بالقرب من محطة الركاب على ناصية الطريق الرئيسي خارج الكلية .. قام بتصوير المحاضرتين وظل يتكلم معنا بعدها في أمورٍ أخرى إلى أن اضطررت إلى الاعتذار له بأنني تأخرت ولا بد أن أرحل، فصافحنا وقبَّلنا كأننا أصدقاء قدامى ورحل .. قلت لأحمد: "إسمه إيه صاحبك ده؟ .. إنت تعرفه من إعدادي ولا من قبل كدة؟" .. فرد أحمد مندهشًا: "إيه ده .. أنا كنت لسة هسالك نفس السؤال .. هو مش صاحبك أصلاً؟!!" .. فغرت فمي في ذهولٍ حقيقي .. ساعةٌ من الحديث مع شخصٍ غريبٍ وكلٌ منا – أحمد وأنا – يظن أنه صديقٌ للآخر .. في اليوم التالي بعدما قابلنا هذا الشخص الغريب في المحاضرة الصباحية وبعد المصافحة والتقبيل والأحضان، عرفت أن اسمه (محمد أيمن).

***************************

(محمد أيمن) إنسان ٌطيب القلب .. خدومٌ جدًا .. وفيٌ لأصدقائه .. دائم السؤال عليهم .. لكنني احتجت لسنة كاملة – وربما أكثر – كي أدرك كل هذه الصفات .. للوهلة الأولى يبدو محمد كشخصٍ غريب الأطوار، لكن مع معاشرته والتعامل معه عن قربٍ ستدرك أنه صديقٌ جيد .. لو تخلص من عادته في تكرار نفس السؤال لنفس الأمر لنفس الشخص أكثر من مرة – (التشييك) كما أطلقنا هذه الصفة عليه – ولو تخلص من تردده في اتخاذ أي قرار سيكون هذا أفضل له ولنا بكل تأكيدٍ J .. بعد مرور أكثر من سبعة عشر عامًا على معرفته في الموقف الذي ذكرته لكم، لا يزال (محمد أيمن) أحد أصدقائي المقربين الذين يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة.

***************************

في اليوم الثاني للدراسة، طلبوا منا التوجه إلى صالة الرسم الخاصة بالسنة الأولى بالدور الثالث .. أعطونا ورقةً بها رموزٌ غريبة قالوا أنها ترمز لأبواب وشبابيك ومحاور وأشياء من هذا القبيل .. لم أكن أعرف وقتها أن الباب يُرسم في المسقط الأفقي على شكل ربع دائرة تمسكها عصا مزدوجة الخط .. نظرت إلى هذه الرموز في غباءٍ واضحٍ .. حدثتني نفسي الأمارة بالسوء أنني لا أزال مقيدًا على ذمة قسم اتصالات ولم يتم قبول طلب تحويلي رسميًا لقسم عمارة بعد .. لا بد أنهم لن يحتسبون لي درجات هذا الاختبار، وبالتالي فلا فائدة من الجلوس لساعةٍ كاملةٍ في صالة الرسم أمام هذه الرموز العجيبة التي لا أعرف عنها شيئًا .. أخبرت أصدقائي الجدد بأنني لن أكمل هذا الاختبار، فحاولي إقناعي بأن أحضر وأرسم أي شيءٍ مثلما سيفعلون، فهم كذلك لا يفهمون ماهية هذه الرموز .. لكن نفسي الأمارة بالسوء رفضت بكل عندٍ تلبية محاولاتهم المشكورة .. فيما بعد عرفت أن هذا الاختبار كان من خمس درجاتٍ تضاف ضمن درجات أعمال السنة لمادة إنشاء المباني .. عرفت أيضًا أنهم احتسبوا درجة الاختبار لكل الطلاب بما فيهم من هم مثلي مُعَلَّقُون ولم يلتحقوا رسميًا بقسم عمارة .. بعد أربعة سنواتٍ حينما ظهرت نتيجة البكالوريوس عرفت من رئيس الكنترول أنني كنت في حاجةٍ إلى درجتين ونصف فقط من إجمالي سبعة آلاف وخمسمائة درجة – هي كل درجات السنوات الخمسة التراكمية – كي أنتقل من تقدير عام (جيد) إلى تقدير عام (جيد جدًا) .. على الفور رأيت أمامي نفسي اللوامة وهي تضحك في تشفٍ واضحٍ وهي تذكرني بذلك الاختبار الذي استهنت به في بداية أولى عمارة .. لكن أوان الندم كان قد فات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق