الجمعة، 26 فبراير 2016

حكايتي مع عمارة (7) .. سيد .. مندوب الدفعة ​



من أكثر الشخصيات التي قابلتها في حياتي من حيث خفة الظل والروح المرحة والابتسامة التي لا تفارق وجهه .. لا أتذكر أنني قد رأيته متجهم الوجه أو غاضبًا قط .. خدومٌ لأقصى درجةٍ لكل من يعرفهم .. لا يتأخر في إسداء خدمةٍ أو تلبية طلبٍ لك في أي وقتٍ .. ذكي .. لبق في الحديث .. أسلوبه يُحَبِّب فيه كل من يتعامل معه.
من أجل ذلك لم يتردد جميع طلاب الدفعة في اختياره مندوبًا لهم في سنة أولى عمارة وحتى آخر يومٍ لنا في الكلية .. كان اختياره كمندوبٍ للدفعة باكتساحٍ تامٍ وبلا منافسةٍ .. كنا كلما أردنا أن نؤجل تسليم بحثٍ أو مشروعٍ، لا نجد من هو خيرٌ من (سيد) كي يُقنع السادة الدكاترة، وغالبًا ما كان ينجح في إقناعهم .. كان ينهي لنا أية إجراءاتٍ تنظيميةٍ أو رحلةٍ جماعيةٍ للدفعة تخص الدراسة .. كان صوتنا المسموع عند إدارة القسم وأساتذته وعند إدارة الكلية.

*********************************

في نصف العام الدراسي الثاني لسنة أولى عمارة، وبالتحديد في شهر مارس من عام 1999، نظم لنا (سيد) أول رحلةٍ دراسيةٍ .. كان يومًا لا يُنسى بدأناه بزيارة منطقة سقارة وهرم زوسر المدرج، ثم توجهنا إلى مقبرة الملكة (تي)، وأنهيناه بزيارة الأهرام الثلاثة وأبي الهول.
راح سيد يلقي بالنكات طوال الطريق، وأشاع جوًا من المرح والسعادة داخل الأتوبيس الذي يُقِلّنا .. يومها فاجأنا (سيد) بأغنيةٍ لطيفةٍ غناها لنا بطريقته التلقائية، ورددناها معه في استمتاعٍ.

أنا نونو صغير .. بنطلونه صغير
عاوز أشتري شرابات
رحت لبابا قلت له .. يا بابا أنا نونو صغير .. بنطلونه صغير .. عاوز أشتري شرابات
بابا قال لي إنت نونو صغير .. بنطلونه صغير
مش تشتري شرابات
رحت لماما قلت لها .. يا ماما أنا نونو صغير .. بنطلونه صغير
عاوز أشتري شرابات
ماما قالت لي .....................

وهكذا رحنا ننتقل مع النونو الصغير من أبيه إلى أمه إلى أخيه ثم أخته في محاولاته اليائسة لإقناعهم بشراء جوارب صغيرةٍ له، لكنهم أجمعوا على أن النونو الصغير ذي البنطال الصغير لا يمكن أن يشتري ''شرابات'' .. لا أعلم لماذا، لكننا استمتعنا بالأغنية على كل حال :) .
قبل هذه الرحلة بأسابيع قليلةٍ، وقبل حلول أول يومٍ من أيام شهر رمضان، قام (سيد) بتجميع مبلغٍ من المال من الدفعة واشترى لنا به فانوسًا كبيرًا من الصاج والزجاج قمنا بتعليقه في منتصف صالة الرسم طيلة أيام الشهر الفضيل .. وظللنا نحافظ على هذه العادة بعد ذلك في كل رمضان من السنة الأولى وحتى السنة الرابعة .. لا أعلم ما مصير هذا الفانوس بعد إنهائنا للدراسة بالكلية، وأرجو ألا يكونوا قد ألقوا به مع المخلفات.

*********************************

في العام التالي مع بداية سنة ثانية عمارة، وفي صبيحة تسليم مشروع (النادي الاجتماعي) بعد ''تطبيقةٍ'' لم نذق فيها طعم النوم .. كنت متأخرًا - كعادتي التي لم تتغير - وكان أغلب أصدقائي قد أنهوا مشاريعهم ولم يتبق لهم سوى كتابة المشروع .. كنت دائمًا ما أقوم بكتابة مشاريع أصدقائي .. كنت أبدأ بهيثم لطفي​ الذي كان أول من ينهي مشروعه في الدفعة دائمًا قبل تسليمه بأيام، وكان في المقابل يقوم لي بعمل السماء بالألوان الباستل لواجهات مشروعي .. وظللنا على هذا العهد حتى مشروع التخرج .. أكتب له مشروعه ويلوّن لي السماء.
ظللت في صباح ذلك اليوم أكتب المشروع تلو الآخر لأصدقائي، بينما مشروعي لا يزال ينقصه الكثير .. بدأت أعصابي تتوتر وكان متبقيًا أقل من ساعةٍ على موعد تسليم المشروع .. جاء (سيد) طالبًا مني كتابة مشروعه، فانفجرت فيه غاضبًا وقلت كلامًا - لا أعرف كيف قلته - عن عدم إحساس الجميع وعدم تفكيرهم إلا في أنفسهم ومصلحتهم فقط .. لم يغضب (سيد) مني ولم يَرُد على انفعالي بانفعالٍ مماثلٍ، على العكس فقد استقبل انفعالي الشديد بهدوءٍ أشد، واستطاع بذكاءٍ - أغبطه عليه - عليه أن يمتص غضبي وثورتي .. أدرك (سيد) أن غضبي - الذي لم يعتد عليه من قبل - لا بد وراءه ضغطٌ عصبيٌ ناتجٌ عن التأخر في إنهاء مشروعي .. أجلسني على كرسي وسحب كرسيًا وجلس بجواري أمام مشروعي، وقال لي:
''إنسى مشروعي خالص .. أنا هسلمه من غير ما أكتبه .. مش عايزك تضايق أو تزعل وإهدى خالص كأني ما طلبتش منك أي حاجة .. إنت لسة ما رمتش الضل .. مش كدة؟ .. فين الإقلام اليوكن البني بتاعتك عشان أرميلك الضل؟''.
نظرت إليه في دهشة .. لم يمهلني كثيرًا وقال لي: ''يالاّ بسرعة ما فيش وقت''.
أعطيته الأقلام، فبدأ على الفور في العمل .. قال لي كأنه يحدث طفلاً صغيرًا يريد أن يسترضيه:
''الله .. شفت الضل شكله جميل أوي إزاي .. الله عليك يا أبو السِيد يا جن''.
ابتسمت .. ومع استمرار حديثه لي بنفس الأسلوب الطفولي تحوَّلَت ابتسامتي إلى ضحكاتٍ عاليةٍ .. لقد نجح سيد في دقيقةٍ واحدةٍ أن يحَوِّلني مائةً وثمانين درجةً من الحالة الهياجية العصبية إلى حالةٍ من الهدوء النفسي .. تركته يستكمل ما نقص في مشروعي وتوجهت إلى مشروعه لأكتبه في رضا وقد زال عني كل غضب وتوتر، وحلَّ محلهما الشعور بالندم على ما قلته له أثناء غضبتي.

*********************************



قابلته منذ شهرين في نادي نقابة المهندسين بأكتوبر .. لم يتغير شكلاً وأسلوبًا وكأنه لم يكبر يومًا واحدًا منذ افترقنا من أكثر من ثلاثة عشر عامًا بعد التخرج .. نفس خفة الظل ونفس الروح المرحة ونفس الابتسامة التي لا تفارق وجهه أثناء حديثه.

أبو عرب .. والله إني أحبك في الله

الخميس، 18 فبراير 2016

قواعد الاحترام الأربعون - القاعدة الحادية والثلاثون

احرص على ألا تجرح أحباءك بفعل ما يضايقهم وكأنك تتعمد إيذاءهم .. تخلَّ فورًا عما ضايقهم احترامًا لهم، فخسارتك لهذا الفعل الذي ضايقهم أهون ألف مرةٍ من أن تخسر من تحب نتيجة إصرارك على عدم التخلي عما تسبب لهم من ألم.


الاثنين، 1 فبراير 2016

حكايتي مع صديقي .. محمد ربيع



منذ أن عرَّفني به صديقي (أحمد يوسف) من خلال جروب القراءة الخاص بنا على فيس بوك منذ أكثر من عام، وأنا أتمنى لقاءه ..
ومنذ أن رأيت تعليقه الأول وتقييمه للمجموعة القصصية (أنا الملك جئت) للكاتب بهاء طاهر، أدركت أنني أمام شخص مثقف من الطراز الأول ..
ومنذ أن بدأ في التفاعل والنقاش على الجروب لأكثر من كتاب بعد ذلك، عرفت أن الجروب قد ربح شخصا سيثري النقاش ويعلي من مستواه ..
وبعد أن قابلته بالأمس لأول مرة، تيقنت أنني قد ربحت إنسانا استثنائيا وصديقا قلما يجود الزمان بمثله ..
كان لقاؤنا بالإمس في مكان من أحب الأماكن إلى قلبي وعقلي، وفي حدث أنتظره بفارغ الصبر من العام إلى العام .. المكان هو: أرض المعارض بمدينة نصر، والحدث هو: معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السابعة والأربعين ..
سعادتي لا توصف لأن المقابلة الأولى معه سترتبط في ذهني إلى الأبد بمعرض الكتاب .. ذلك الحدث الذي أعتبره عيدا حقيقيا يأتي مرة واحدة فقط كل عام .. ذلك الحدث الذي لم أنقطع عنه - منذ أن اصطحبني والدي معه إلى المعرض للمرة الأولى عام 1991 - إلا عندما سافرت خارج مصر لظروف العمل .. وكم أعجبني ذلك الوصف الذي وصف به محمد ربيع بالأمس معرض الكتاب بأنه: ''ذلك العيد الذي لا يرتبط بدين أو بجنسية'' .. أربعة عشر يوما من المتعة الذاتية والسعادة الصافية .. أربعة عشر يوما تهون علي كثيرا من الإحباطات والمعاناة التي يشعر بها المواطن على أرض هذا البلد .. فبمجرد أن أجتاز بوابة المعرض الرئيسية، أشعر بأنني قد انفصلت عن العالم الموجود خارج أسوار المعرض ودخلت إلى عالمي الخاص الذي أشعر فيه بنفسي وأحس فيه بسعادتي الحقيقية والذي أتمنى لو أعيش فيه ما حييت.

مكثنا معًا خمس ساعات متواصلة لم أشعر فيها بلحظة واحدة من الملل .. فمنذ اللحظة التي استقبلني فيها محمد داخل المعرض ببشاشة وترحاب وخفة ظل وحتى لحظة افتراقنا، شعرت معه كأننا أصدقاء منذ سنوات ولم أشعر معه بذلك الحرج والتكلف اللذين يغلفان أي حديث بين أي شخصين يتقابلان للمرة الأولى .. فاجأني بهدية عبارة عن عدة كتب متنوعة بين الرواية والشعر والقصة القصيرة والدينية .. فرحت بهديته فرحة طفل تهديه أول لعبة في حياته .. قمنا بعدها بجولة سريعة في جناح الدار المصرية اللبنانية اشترى منها روايتين على سبيل الفضول لكاتبيهما ولغلافيهما (العتبة كما أطلق عليها محمد، ويقصد بها الانطباع الأول عن أي كتاب والذي يعطيك الحافز إما لشرائه وإما لتجاهله) .. ثم حضرنا جزءا من ندوة كان ضيفها رئيس الحزب المصري الاشتراكي تحدث فيها عن أن مشكلة مصر الكبرى تتمثل في التعليم الذي إن انصلح صلح البناء كله وإن فسد أفسد كل البناء، ثم بدأ الحديث عن العلمانية وأهميتها بعد فشل التجربة ''الإسلامية'' في مصر وضرورة إرسائها - أي العلمانية - كنظام حياة بعدما أفسدتها وعطلتها الأساطير (يقصد الدين) !! .. بالطبع لم يعجبنا الجزء الأخير من الكلام فآثرنا عدم تضييع المزيد من الوقت.
توجهنا بعد ذلك إلى مقهى المعرض واحتسينا القهوة التركية بينما أستمع إلى محمد في استمتاع ونشوة بالغين .. كان الحوار شيقا وممتعا وتحدثنا في كل شيء تقريبا .. الأدب .. السياسة .. الدين .. الفن .. الرياضة .. السفر .. العمل .. المولد النبوي .. العمل التطوعي .. بنها .. الفيوم .. الغردقة .. شرم الشيخ .. أحمد يوسف .. باولو كويلهو .. عم أمين الديب .. الموت .. القدوة .. ألمانيا .. هولندا .. فرنسا .. القراءة .. محمد صبحي .. مسرح مصر .. أسرة رسالة.
سَرَقَنا الوقت ولم نشعر بمرور أكثر من ساعتين إلا بعد أن فوجئنا بعامل المقهى يستأذننا في المغادرة لأن وقت إغلاقه قد حان.
خرجنا من المقهى وجلسنا على أحد المقاعد في الهواء الطلق مع نسمات ليل الشتاء الباردة والتي لم أشعر بها مع دفء الحديث .. احتسينا الكابتشينو ثم غادرنا المعرض في العاشرة مساء بينما يغلقون الأبواب خلفنا .. أوصلته إلى محطة القطار في رمسيس كي يلحق بالقطار المتجه إلى بنها، ولم أنس نصيحته لي قبل رحيله: ''اكتب بلا توقف .. وفتش عن الإيجابيات''.
لا تزال نصيحته تلك تتردد في عقلي منذ أن فارقته بالأمس .. وآمل ألا يخيب ظنه في.

لم تكن هذه كل الحكاية مع محمد ربيع .. لكنها كانت فقط البداية.